والكلمات الشرعية لها ميزات: الميزة الأولى: هي الاختيار لها، فإن الله سبحانه وتعالى يصطفي لهذه الكلمات من شاء من خلقه، كما قال تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:١٢٤] ، في القراءة الأخرى:(اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته) وهنا بحث دقيق وهو في تفسير قوله: (رسالته) و (رسالاته) ما الفرق بينهما؟
و
الجواب
أن قوله (رسالته) هي الشريعة بكاملها، وقوله (رسالاته) هي الأحكام على كثرتها، فكل حكم رسالة بخصوصها، مثلما تكتب رسالة إلى شخص في أمر تريده ثم ترسل إليه رسالة أخرى، فكل ذلك يسمى رسالة وتجمع على رسائل، فكذلك نزول الملك بسورة أو بآيات يسمى رسالة، والشريعة بكاملها تسمى رسالة، فلهذا جمعت تارة وأفردت أخرى، وبهما قرئ في هذه الآية.
وكذلك قوله تعالى:(قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالتِي وَبِكَلامِي) وفي القراءة الأخرى: {بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي}[الأعراف:١٤٤] ، فهذا باعتبار الأحكام المنزلة عليه.
والاصطفاء المذكور أيضاً في قوله:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ}[الحج:٧٥] ، فهو اجتباء مخصوص، ولا يمكن أن يكون هذا لكل البشر، بل قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الشورى:٥١] .
كذلك من مميزات هذا النوع من الكلمات -أي: الكلمات الشرعية- أنه محصور في الكتب المنزلة، وقد ختمت بالقرآن، فلا يمكن أن ينزل منه شيء بعد القرآن، وختم التشريع أيضاً ببعض القرآن وهو قوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً}[المائدة:٣] ، فعلى هذا قد اكتملت الكلمات التشريعية، وما رضيه الله لخلقه من الشرائع قد أكمله عندما أنزل هذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة في حجة الوداع.
الميزة الثالثة: التفاوت في التشريع، وقد سبقت الإشارة إلى هذا في الكلام على النسخ فتتنزل شريعة تصلح لمدة محددة ثم تنسخ بشريعة أخرى، ويبقى ذلك الكتاب غير صالح للتطبيق فيما بعد، ولكن يجب الإيمان به بأنه كتاب منزل من عند رب العالمين، والكتب التي تأتي بعده تأتي مصدقة لما فيه من الأخبار ملزمة للإيمان به، كما قال تعالى:{مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}[البقرة:٩٧] .
الميزة الرابعة: أن هذه الكلمات محصورة العدد، فالقرآن -مثلاً- محصور العدد، حتى حروفه محصورة وكلماته محصورة وسوره محصورة وآياته محصورة، فسوره مائة وأربع عشرة سورة، وكلماته معروفة عددها، وحروفه معروف عددها، وذلك بخلاف ما سنذكره في الكلمات الكونية، وهذه الكلمات الشرعية يقع فيها التبديل والنسخ، فليست مقصودة بقوله:{وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}[الأنعام:٣٤] ، بل هذه الكلمات يقع فيها التبديل كما قال:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[النحل:١٠١] ، ومن هنا ترد دعوى النصارى التي يروجون لها اليوم في الكتب الخضراء التي طبعوها في أمريكا لترويج المسيحية والتي يقولون فيها: إن الإنجيل ثبت في القرآن أنه كلام الله، وثبت في القرآن أيضاً: أنه لا مبدل لكلمات الله، فلا يمكن أن يبدل ولا أن يغير، فكيف تزعمون أننا غيرنا فيه أو بدلنا؟ فيجاب: بالقول بعدم توارد الآيتين على محل واحد، فالإنجيل كلام الله من الكلمات التشريعية، والكلمات الكونية هي التي لا تبديل فيها؛ لقوله تعالى:{وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}[الأنعام:٣٤] .
فالكلمات التشريعية تبدل حتى في القرآن؛ لقوله:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[النحل:١٠١] .