كتابه هذا إلَّا بعد وفاة شيخ الإسلام؛ دلّني على ذلك قوله كثيرًا:«قال ابن تيميّة ـ رحمه الله تعالى ـ كذا وكذا» ؛ فلو كان حيًّا إذ ذاك ما ساغ له قول ذلك؛ لأنّ هذه الجملة الدُّعائيّة لا تُستعمل ـ غالبًا ـ إلَّا في حقّ الميّت.
ولنرجع إلى المقصود؛ لنقل كلام شيخ الإسلام في هذا الكتاب؛ قال ـ رحمه الله تعالى ـ، بعد أن ذكر المعترض المالكيّ هذا القياس الذي ذكره السّبكيّ هنا، غير أنّ المالكيّ قد استدلّ له بما أخرجه مسلم في صحيحه (في فضل الذي زار أخًا له في الله) ، قال الشيخ ابن تيميّة:
«والجواب: أمّا زيارة الأخ الحيّ في الله ـ كما في الحديث ـ؛ فهذا نظير زيارته في حياته؛ يكون الإنسان بذلك من أصحابه، وهم خير القرون، وأمّا جعل زيارة القبر كزيارته حيًّا ـ كما قاسه هذا المعترض ـ؛ فهذا قياس ما علمتُ أحدًا من علماء المسلمين قاسه، ولا علمتُ أحدًا منهم احتجّ في زيارة قبره بالقياس على زيارة الحيّ المحبوب في الله، وهذا من أفسد القياس؛ فإنّه من المعلوم أنّ مَن زار الحيّ حصل له بمشاهدته وسماع كلامه ومخاطبته وسؤاله وجوابه وغير ذلك ما لا يحصل لمَن لم يشاهده ولم يسمع كلامه.
وليس رؤية قبره أو رؤية الجدار الذي بني على بيته بمنزلة رؤيته ومشاهدته ومجالسته وسماع كلامه؛ ولو كان هذا مثل هذا؛ لكان مَن زار قبره مثل واحد من أصحابه، ومعلوم أنّ هذا من أباطل الباطل.
وأيضًا؛ فالسّفر إليه في حياته إمّا أن يكون لمّا كانت الهجرة إليه واجبة ـ كالسّفر قبل الفتح ـ؛ فيكون المسافر إليه مسافرًا للمقام عنده بالمدينة، مهاجرًا من المهاجرين إليه، وهذا السّفر انقطع بفتح مكّة؛ فقال: «لا هجرة بعد الفتح؛ ولكن جهاد ونية» ؛ ولهذا لمّا جاء صفوان بن أميّة مهاجرًا أمره أن يرجع إلى مكّة، وكذلك سائر الطّلقاء كانوا بمكّة لم يهاجروا. وإمّا أن يكون المسافر إليه وافدًا إليه ليسلم أو يتعلّم منه ما يبلغه قومه؛ كالوفود الذين كانوا يفدون عليه، لا سيّما سنة عشر سنة الوفود، وقد أوصى