«لا تُشَدّ الرّحال ... » عامّ مخصوص بهذه الأدلة المجوّزة لشدّ الرّحل والسّفر إلى ما ذكر، وقد بقي حكمه في منع شدّ الرّحل إلى زيارة أيّ قبر من القبور؛ حيث لم يأتِ دليل يجوّز السّفر إلى زيارة القبور.
فإن قلتَ: قد وردت أحاديث تفيد استحباب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم والسّفر إليه؛ فهي مُخَصصة لهذا الحديث.
فالجواب: هذه الأحاديث بعضها ضعيف، وبعضها موضوع، وحديث:«لا تُشَدّ الرّحال ... » صحيح متّفق على صحّته، ولا يُخصص الصّحيح بالضّعيف؛ بل بصحيح مثله. وأيضًا؛ إنّ الأحاديث الواردة في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم الثابت منها لا يفيد إلَّا استحباب الزّيارة فقط، وهذا لا ينكره شيخ الإسلام ولا غيره من العلماء إذا خلا عن شدّ رحل، وما يُفيد استحباب شدّ الرّحل للزّيارة منها فهو مُختلق موضوع، ومما يدلّ على أنّ شدّ الرّحل لزيارة القبور غير جائزة: عدم ورود دليل عنه صلى الله عليه وسلم، لا من قوله ولا من فعله، ولا من قول أصحابه ولا من فعلهم، ومعلوم أنّ قبور الأنبياء والصّالحين كانت في زمانه وفي زمان أصحابه، ولم يبلغنا أنّه صلى الله عليه وسلم شدّ رحله إلى زيارة قبر من القبور، ولا أمر به، ولا فعله أصحابه، مع أنّه صلى الله عليه وسلم سافر للتّجارة والغزو، وسافر موسى ـ عليه وعلى نبيّنا أفضل الصّلاة والسّلام ـ لطلب العلم، وسافر الصّحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لطلب العلم، والتّجارة، وزيارة الإخوان في الدّين؛ فعُلِمَ بهذا أنّ حديث:«لا تُشَدّ الرّحال ... » لم يُخَصّ بهذه المذكورات؛ بل باقٍ على حكمه من المنع عن شدّ الرّحل إلى زيارة القبور.
الوجه الثاني: أن يقال: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدّ الرّحال» : إلى أي بُقعة تُلتَمس منها بركة، أو تفعل فيها عبادة أو قُربة، «إلَّا إلى المساجد الثّلاثة» ، ومعلوم أنّ كلّ قبر من القبور في بقعة من البقاع، وهي غير المساجد الثّلاثة؛ فقد تبيّن بما قرّرناه أنّ تأويل السّبكيّ وأضرابه لهذا الحديث ساقط عن درجة الاعتبار، وأنّ ما ذهب إليه شيخ الإسلام وغيره هو الحقّ الذي لا غبار عليه عند كلّ مَن أنصف من نفسه وحكّم الدّليل، والله الهادي إلى سواء السّبيل.