والرسالة مطبوعة في مصر، وقد أطال فيها الكلام على الزّيارة البدعيّة؛ فارجع إليها؛ لأنّها مفيدة جدًّا في هذا الباب، وحيث إنّها قد نُشِرَت في البلدان؛ اكتفيتُ بذكر القليل منها؛ فرحمة الله على مؤلّفها.
الحاصل: أنّ العلماء قديمًا وحديثًا قد قسّموا زيارة القبور إلى: شرعيّة، وبدعيّة؛ فالشّرعيّة: ما كانت لأجل تذكّر الآخرة والدُّعاء لأهلها والتّرحّم والسّلام عليهم، وهذا القدر لا يفتقر إلى شدّ رحل؛ إذ ما من بلدة إلَّا وفيها قبور، وأمّا قبره صلى الله عليه وسلم فهو أفضلها وأحقّ بالزّيارة، ولكن لا يُقصد بشدّ رحل استقلالًا؛ بل إذا نوى المسافر الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ سُنّ له أن يزور قبره الشّريف، وله أن ينوي الزّيارة مع نيّة شدّ الرّحل لأجل الصّلاة في المسجد ـ كما تقدّم تقريره ـ، وهذا هو الذي قاله شيخ الإسلام، ولم يأتِ في كلامه قط ما ينفي الزّيارة الشّرعيّة؛ عملًا بالحديث المرويّ:«لا تُشَدّ الرّحال ... » ، وتأويل السّبكيّ لهذا الحديث بالتّأويلات البعيدة لا يُخرجه عن المقصود منه؛ لأنّنا نقول: معنى قوله «لا تُشَدّ الرّحال» : خبر، ومعناه النّهي، «إلَّا إلى ثلاثة مساجد» : هذا استثناء مفرغ، والاستثناء منقطع؛ لعدم تقدّم مادة عليه يُستثنى منها، فمَن خَصّه بعدم جواز شدّ الرّحل إلى مسجد غير المساجد الثّلاثة فقد أخطأ؛ لأنّ المساجد ما تقدّم لها ذكر؛ فيبقى النّهي على عمومه؛ فإذا قلنا ـ مثلًا ـ:«لا يُسافَر إلَّا لمكة» ؛ فُهِمَ من هذا عدم جواز السّفر إلى غيرها مما جرت العادة بالسّفر إليه، ولا يُقال: هذا خاصّ بالبلدان دون الأشخاص؛ لأنّ البلدان والأشخاص من النّاس جرت العادة بالسّفر إليها؛ فلا يكون أحدهما هو المتعيّن بالنّهي عن السّفر إليهم.
فإن قلتَ: يلزم على قولك هذا: عدم جواز السّفر إلى غير المساجد الثّلاثة، والحال: قد جاءت الأدلّة باستحباب السّفر إلى طلب العلم، وزيارة الإخوان، والتّجارة، وغير ذلك.