للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يَجعل هذا مُباحًا إلَّا مَن لم يتدبّر معاني القرآن والسُّنّة وسير السّلف. وإن تجرّد قصده بالسّفر عن هذا كلّه؛ فهو إلى التّحريم أقرب؛ لأنّنا منهيّون عن إضاعة المال، وعن الاشتغال بما لا يعني.

فإن قلتَ: السّفر إلى زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فيه خير دينيّ؛ فيكون من باب السّفر المطلوب.

فالجواب: زيارة قبره صلى الله عليه وسلم هي من أعظم القربات، ولكن لم يأمرنا ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ إلَّا بشدّ الرّحال للصّلاة في المساجد الثّلاثة؛ فلو كانت زيارته صلى الله عليه وسلم كالصّلاة في مسجده لعطفها على المساجد، ولكن لمّا لم يذكر معها؛ علمنا أن حكمها غير حكم المساجد الثّلاثة، وأنّ الذي يُقصَد بشدّ الرّحل إنّما هو الصّلاة في مسجده والزّيارة معًا، وإن أخّر نيّة الزّيارة حتى وصل فلا بأس.

فإن قال قائل: يلزم على قولك هذا: أنّ الزّيارة تابعة لا متبوعة، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم متبوع لا تابع؛ فزيارته كذلك!

فجوابه أن يقال: هل المقصود من زيارة القبر الشّريف انتفاع الزّائر أو انتفاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فإن كان الأول: فمعلوم أنّ الصّلاة خير موضوع، وأنّها أفضل الأعمال ـ كما جاء ذلك في الأحاديث الصّحيحة ـ، وأنّها في مسجده أفضل من غيرها سوى المسجد الحرام؛ فهي أحقّ بالقصد من الزّيارة. وإن كان الثاني: فمعلوم أنّ الصّلاة حق لله والزّيارة حق للمخلوق، وحقّ الله أولى بالتّقدّم على حقّ المخلوق.

وأمّا قول السّبكيّ: «ولو طُولب ابن تيميّة بالدّليل على هذا النّفي العام؛ لم يجد إليه سبيلًا» !

فجوابه: أمّا هذه الآثار التي أوردتَها؛ فقد تقدّم الكلام عليها مستوفى، وأمّا جوابنا على هذه الجملة فهو: لو كان السّفر لمجرد الزّيارة شائعًا ذائعًا بين الصّحابة والتّابعين فمن بعدهم؛ ما كان يختصّ بفعله بلال وعمر بن عبد العزيز؛ بل كان يكون مما استفيض واشتهر، ولكان أئمّة الدّين من المتقدّمين ذكروه في كتبهم، وهذا مالك في «الموطأ»

<<  <   >  >>