للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بلدا، فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيرته كما أردت ومصرته كما سألت ذا أمن على من أوى إليه ولاذ به فيكون البلد على هذا عطف بيان على مذهب سيبويه، وصفة على مذهب أبي العباس المبرد وآمنا مفعولا ثانيا، فعرف حيث عرف بالبلدية، ونكر حيث كان مكانا من الأمكنة غير مشهور بالتميز عنها بخصوصية من عمارة وسكنى الناس.

والجواب الثاني: أن تكون الدعوتان واقعتين بعد ما صار المكان بلدا، وإنما طلب من الله تعالى أن يجعله آمنا، وللقائل أن يقول: اجعل ولدك هذا ولدا أديبا، وهو ليس يأمره بأن يجعله ولدا، لأن ذلك ليس إليه، وإنما أمره بتأديبه، فكأنه قال: اجعله على هذه الصفة، وهذا كما يقول: كن رجلا موصوفا بالسخاء، وليس يأمره بأن يكون رجلا، وإنما يأمره بما يجعله وصفا له من السخاء، فذكر الموصوف وأتبعه الصفة، وهذا كما تقول: كان اليوم حارا، فتجعل يوما خبر كان، وحارا صفة له، ولم تقصد أن تخبر عن اليوم بأنه كان يوما، لأنه يصير خبرا غير مفيد، وإنما القصد أن تخبر عن حر اليوم، فكان الأصل أن تقولك كان اليوم حارا، وأعدت لفظ يوم لتجمع بين الصفة والموصوف، فكأنك قلت: كان هذا اليوم من الأيام الحارة، وكذلك تقول: كانت الليلة ليلة باردة، فتنصب ليلة على أنها خبر كان وحكم الخبر أن يتم به الكلام، ولم قلت: كانت الليلة ليلة لم يكن الكلام تاما، لأن القصد إلى الصفة دون الموصوف فكذلك قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} (١)، يجوز أن يكون المراد: اجعل هذا البلد بلدا آمنا، فيدعو له بالأمن بعد ما قد صار بلدا على ما مثلت، ويكون مثل قوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} (٢). وتكون الدعوة واحدة قد أخبر الله تعالى عنها في الموضعين.

فأما قول من يقول: إنه جعل الأول نكرة، فلما أعيد ذكرها أعيد بلفظ المعرفة، كما تقول: رأيت رجلا، فأكرمت الرجل، فليس بشيء، وليس ما ذكره مثلا لهذا، ولا هذا المكان مكانه» (٣).

من خلال عرض رأى الإمامين الجليلين يتضح أن الإمام الرازي قد نقل من الإمام الإسكافي دون أن يشير إلى ذلك.


(١) سورة البقرة، الآية: (١٢٦).
(٢) سورة إبراهيم، الآية: (٣٥).
(٣) درة التنزيل وغرة التأويل، (ص: ٢٨٢ - ٢٨٧).

<<  <   >  >>