الفرقة الثانية: المتوسطون أو عامة القدرية الذين أقروا بالعلم والكتاب المقرون بالعلم، وإنما خالفوا السلف في زعمهم أن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال يعني: يقولون: أفعال الله أفعال العباد ما شاءها الله ولا خلقها فيقولون: إن مشيئة الله عامة إلا أفعال العباد وخلق الله لكل شيء عام إلا أفعال العباد، وهذا المذهب مع كونه مذهبا باطلا أخف من المذهب الأول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وهؤلاء مبتدعة ضالون لكنهم ليسوا بمنزلة أولئك وفي هؤلاء خلق كثير من العلماء والعباد يعني: يوجد من العلماء من اعتنق هذا المذهب ومنهم من أخرج له البخاري ومسلم في صحيحهما لكن من كان داعية إلى بدعته لم يخرجوا له، وهذا مذهب فقهاء الحديث كأحمد وغيره ومن كان داعية إلى بدعته فإنه يستحق التعزير لدفع ضرره عن الناس وإن كان في الباطن مجتهدا فأقل عقوبته أن يهجر فلا يكون له مرتبة في الدين فلا يستقضى ولا تقبل شهادته. انتهى كلام شيخ الإسلام -رحمه الله-.
فالقدرية والمعتزلة نفاة القدر يثبتون للعبد مشيئة تخالف مشيئة الله أي: تخالف ما أراده الله من العبد وشاءه ويزعمون أن العبد يخلق فعل نفسه استقلالا بدون مشيئة الله وإرادته شبهتهم قالوا: لئلا يلزم على ذلك أن يخلق المعاصي ويعذب عليها فشبهتهم قالوا: فالقدرية على أصل وهو أنه يجب على الله فعل الأصلح للعبد، فلو قلنا: وفعل الأصلح للعبد وهو أن يقدر لهم الطاعة لا المعصية فلو قدر المعصية وعذب عليها للزم عليه أن يخلق المعاصي ويعذب عليها.
الرد عليهم نقول: أنتم في قولكم هذا كالمستجير من الرمضاء بالنار فإنهم هربوا من شيء فوقعوا في شر منه، فإنه يلزم على قولهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، فإن الله قد شاء الإيمان منه على قولهم، والكافر شاء الكفر فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله وهذا من أقبح الاعتقاد وهو قول لا دليل عليه بل هو مخالف للدليل النقلي والعقلي، وهل أضل ممن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر والكافر شاء الكفر فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله؟.
ثانيا: أنه يلزم على قولهم أنه يقع في ملك الله ما لا يريد.
ثالثا: يلزم على قولهم على الإشراك في الربوبية وأن الله ليس ربا لأفعال الحيوانات أن الله ليس ربا لأفعال العباد ومذهبهم أن الله سبحانه ليس على كل شيء قدير وأن العباد يقدرون على ما لا يقدر عليه وأن الله -سبحانه- لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا، وهذا كما قال بعض العلماء: شرك في الربوبية مختصر؛ ولهذا ورد أن القدرية مجوس هذه الأمة لمشابهة قولهم لقول المجوس، فهم يثبتون مع الله خالقين للأفعال ليست أفعالهم مقدورة لله بل هي قادرة بغير مشيئة الله وإرادته ولا قدرة له عليها بل العباد خالقون لأفعالهم بدون مشيئة الله، والله لم يخلق أفعالهم وأنها واقعة بمشيئتهم وقدرتهم دون مشيئة الله، وأن الله لم يقدر ذلك عليهم ولم يكتبه ولا شاءه فشابهوا المجوس في كونهم أثبتوا خالقا مع الله؛ ولهذا سموا مجوس هذه الأمة وسموا قدرية لإنكارهم القدر.
والرد عليهم: يرد عليهم بأن ربوبية الله سبحانه الكاملة المطلقة تبطل قول هؤلاء؛ لأن مقتضى ربوبية الله لجميع ما في هذا الكون من الذوات والصفات والحركات والأفعال، وحقيقة قول هؤلاء أن الله ليس ربا لأفعال الحيوانات ولا تناولتها ربوبيته وكيف تتناول ما لا يدخل تحت قدرة الله ومشيئة وخلقه؟ وهذا قول عامتهم ومتصوفتهم، وهذا القول هو قول شائع في القدرية يعني: هذا القول هذا المذهب إنما هو مذهب عامة القدرية.
المذهب الثالث: مذهب الجبرية أن العبد ليس بفاعل أصلا بل هو مجبور على أفعاله وأفعاله واقعة باختياره وأن الفاعل منه سواه والمحرك له غيره فهو آلة محضة وحركاته بمنزلة هبوب الرياح وحركات المرتعش هذا قول عامة الجبرية، وأما متصوفتهم ممن يزعمون الترقي في مقام الشهود للحقيقة الكونية والربوبية الشاملة فيرون أن كل ما يصدر من العبد من ظلم وكفر وفسوق هو طاعة محضة؛ لأنها إنما تجري وفق ما قضاه الله وقدره فهو محبوب لديه مرضي عنه، فإنه إن خالف أمر الشرع فقد أطاع إرادته ونفذ مشيئته، وهؤلاء شر من القدرية النفاة وأشد عداوة لله ومناقضة لكتابه ورسله ودينه، وتسمى الجبرية قدرية لاحتجاجهم بالقدر وخوضهم فيه والتسمية على الطائفة الأولى أغلب والجبرية والقدرية في طرفي نقيض
فالقدرية غلوا في نفي القدر حتى أخرجوا أفعال العباد عن خلق الله ومشيئته والجبرية غلوا في الإثبات حتى سلبوا العباد قدرتهم واختيارهم وزعموا أنهم لا يفعلون شيئا البتة، وإنما الله هو فاعل تلك الأفعال حقيقة فهي نفس فعله لأفعالهم والعبيد ليس لهم قدرة ولا إرادة ولا فعل البتة وأن أفعالهم بمنزلة حركات الجماد لا قدرة لهم عليها وإمامهم الجهم بن صفوان.