الرد عليهم أن هذا المذهب باطل ضرورة؛ لأننا نفرق بالضرورة بين حركة البطش وحركة المرتعش ونعلم أن الأول باختياره بالاختيار دون الثاني.
ثانيا: ولأنه لو لم يكن العبد فعل أصلا لما صح التكليف ولا ترتب استحقاق الثواب والعقاب على أفعاله ولا إسناد الأفعال التي تقضي سابقة قصد إليه على سبيل الحقيقة، مثل صلى وصام وكتب بخلاف مثل طال واسود لونه وجرى النهر وذهبت الريح.
ثالثا: النصوص القطعية تنفي ذلك وتنسب الأفعال إلى العباد قال الله -تعالى-: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) } وقال -سبحانه-: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} وقال -سبحانه-: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} وقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فالعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم حقيقة ولا يصح وصف الله بأفعال عباده، فالعبد هو الفاعل حقيقة بجعل الله له فاعلا، منشأ الضلال من شبه الجبرية أنهم يقولون: إننا نقول: إن العبد لا فعل له لئلا يقع في ملك الله ما لا يريد ولئلا يوجد خالق غير الله يعني: عكس شبهات القدرية.
ما هو منشأ ضلال كل منهما؟ التسوية بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا هذا هو الضلال يعني: كل من القدرية سووا بين إرادة الله ومحبته وإن كان كل من الطائفتين لم يثبت إلا إرادة القدرية ما أثبته إلا الإرادة الدينية لكن قالوا: كل ما قضاه الله وقدره فهو محبوب له مرضي وأنكروا أن يكون هناك إرادة كونية، والجبرية قالوا: ليس هناك إلا إرادة كونية وكل ما قضاه الله وقدره فهو محبوب له مرضي.
فإذا منشأ ضلال كل منهما التسوية بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثم اختلفوا، فالإرادة عند الجبرية واحدة وهي الكونية فقالوا: الكون كله بقضاء الله وقدره، فيكون محبوبا مرضيا حتى المعاصي والكفر والإرادة عند القدرية واحدة وهي الشرعية، فقالوا: ما شرعه الله فقد قدره وأمر به وأحبه وليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له فليست مقدرة ولا مقضية بل هي خارجة عن مشيئته وخلقه.
الرد عليهم أن نقول: قد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة، أما المشيئة فمن الكتاب قول الله -تعالى-: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقال: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وأما نصوص المحبة والرضا فقال -سبحانه-: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥) } وقال: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وقال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (٣٨) } عقب ما نهى عنه الشرك والظلم والفواحش والكبر، وفي الحديث:(إن الله كره لكم ثلاثا -قيل: وقال-: وكثرة السؤال وإضاعة المال) وفي المسند (يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)
ومذهب أهل السنة أن المشيئة والمحبة ليس مدلولهما واحدا ولا هما متلازمان بل قد يشاء الله ما لا يحبه، ويحب ما لا يشاء كونه، فالأول كمشيئته لوجود إبليس وجنوده ومشيئته العامة لجميع ما في الكون ما بغضه لبعضهم والثاني كمحبته لإيمان الكفار والفجار، ولو شاء ذلك لوجد ذلك كله فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ويرد على الطائفتين بقول الله -تعالى-: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦) } أي: خلقكم والذي تعملون فدلت على أن أفعال العباد مخلوقة لله وعلى أن أفعال لهم حقيقة، ففيها الرد على الجبرية الذين يقولون: إن العبد لا فعل له وفيها الرد على القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه استقلالا ويرد عليهم بحديث حذيفة: (إن الله خالق كل صانع وصنعته) فالله سبحانه خلق الإنسان بجميع أغراضه وحركاته، وهؤلاء الجبرية والجهمية يخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها فيزعمون أن الله -تعالى- لا يفعل لعلة ولا لحكمة، وإنما هو محض مشيئة وصرف إرادة، وكان شيخهم الجهم بن صفوان يقف على الجذمة -قبحه الله- يقف على الجذمة يعني: المصاب بالجذام فيقول: أرحم الراحمين يفعل هذا! إنكارا للرحمة والحكمة.