وأما الأصل الثالث: فلأن الأفعال الحسنة التي هي منشأ المصالح يحبها الله سبحانه ويرضاها، ثم قد تتعلق بها مشيئته سبحانه فتوجد، وقد لا تتعلق بها مشيئته سبحانه لكون حصولها يفوت مصلحة أكبر منها فتعدم.
والأفعال القبيحة التي هي منشأ القبائح يبغضها الله سبحانه ولا يرضاها، لكن قد تتعلق بها مشيئته لاستلزامها لحكمة أعظم منها فتوجد.
فمشيئته سبحانه مقرونة بالحكمة، فما اقتضت الحكمة وجوده وجد وإن كان في أصله قبيحًا، وهو بوجوده لم يخرج عن كونه كذلك في نفسه، وإنما الحسن بما اشتمل عليه وجوده من وجوه الحكمة.
وما اقتضت الحكمة عدمه عدم، وإن كان في أصله حسنًا، ولم يخرجه عدمه عن كونه حسنًا في ذاته، والحسن في عدمه بما استلزمه عدمه من حكمة أعظم من وجوده.
وبهذا التفصيل في الإرادة يتضح المذهب الحق في هذه المسألة.
ولم يثبت هذه الأصول مجتمعة إلا أهل السنة، ولذلك لم يجد التناقض إلى مذهبهم من سبيل، وأما مخالفوهم؛ فمنهم من نفاها جميعًا، ومنهم من أثبت الأول فقط.
[المسألة الثانية: بيان أنه لا تلازم بين ثبوت الحسن والقبح في الأشياء قبل ورود الشرع وبين الثواب والعقاب عليها.]
من المتقرر أن الوجوب والحرمة والثواب والعقاب وما جرى مجراهما إنما يتلقى من الشرع، إذ لا سبيل للعقل إلى ذلك، وإلا لاستغنى الناس بعقولهم عن الشرع، وهذا باطل.