استأنف الطبع في إتمام كتابي (الفتح الرباني) بعد هذه الفترة الطويلة التي قاسي الناس فيها أهوالا وشدة من الغلاء وسوء الحال من أيام الحرب العالمية الثانية إلى الآن: لم نره شدة مثلها من قبل حتى ضعف الأمل في استئناف طبعه: خصوصا بعد ما انتهيت من طبع كتابي بدائع المنن في ترتيب مسند الشافعي والسنن مع شرحه القول الحسن، فقد تحملت في طبعه مشاق لا يعلمها إلا الله عز وجل بالنسبة لغلاء الورق يوما بعد يوم، ولا زال الغلاء مستمرا إلى الآن: ولا يعلم نهاية.
الغلاء المستمر؟ بل أين العمر الذي يتسع لذلك حتى النهاية وأنا في نهاية الحلقة السابعة من عمري، لا مال ولا آمال، فكان هذا من دواعي الاختصار (ومنها) أني لما وجدت الغلاء مستمرا تركت التفكير في طبعه ووصيت ولدي حسن البنا غفر الله له بإتمام طبع الكتاب بعد وفاتي إذا لم يتيسر لي إتمام طبعه في حياتي، وكنت مطمئنا بهذه الوصية لعلمي أنه خير من ينفذها لما جبل عليه من حب الخير ونشر العلم: خصوصا وأنه يعلم مقدار ما قاسيته في تأليف الكتاب. فكان جوابه، سيطبع في حياتك إن شاء الله تعالى لا في حياتي، ولم أدر ما خبأه لي القدر، فقد فوجئت باستشهاد في سبيل دعوة الإسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ، وله ما له ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، لقد استشهد حسن البنا في سبيل الدعوة إلى الله والرجوع إلى أحكام الله، فعم المصاب لم يكن مصابي أنا وحدي بل مصاب العالم الإسلامي أجمع، لأن الكل يعرف من هو أحسن البنا، تغمدك الله يا ولدي برحمته، وأسكنك فسيح جنته، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجزاك عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وألحقنا بك على الإيمان آمين (عند ذلك) يئست من طبع الكتاب على يد غيري، ولا طاقة لي بذلك، فاشتد كربي وضاق صدري، وحينئذ تذكرت شيئا آخر، وهو مناشدة قادة العلماء وعلى رأسهم فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وقتئذ الشيخ مأمون الشناوي غفر الله لي وله: فكتبت إليه خطابا مسجلا بالبريد بشراء شيء من النسخ المطبوعة وتوزيعها على مكتبات المعاهد الدينية بالقاهرة ومدن القطر المصري، ونشر الدعاية لهذا الكتاب في المحيط الأزهري بين العلماء والطلبة، وإرسال شيء منه إلى الأقطار الإسلامية مع البعثات الأزهرية، وبذلك يحصل التعاون الذي ينبغي لكل مسلم فعله، التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله به في كتابه، لو حصل ذلك لانتفع الناس بالكتاب وانتفعت بإنفاق ثمنه على طبع سائره، ولكن ويا للأسف جعلت أنتظر الجواب أكثر من سنة فلم يستجب لي حتى لحق بربه رحمه الله. فكان هذا من أسباب الاختصار (وفي الوقت) الذي كتبت فيه إلى شيخ الأزهر كتبت خطابا موجها مسجلا أيضا لحضرة وزير مالية الحكومة العربية السعودية أثناء تشريفه مصر منذ عامين تقريبا بشأن شراء مائتي نسخة مما تم طبعه من الجزء الأول لغاية الثالث عشر: وأن يخاطب بذلك جلالة الملك عبد العزيز آل سعود لما عرف عن جلالته من حب الخير ونشر كتب العلم خصوصا كتب السنة، وجعلت أنتظر الجواب فلم يصلني جواب للآن: فكان هذا أيضا من أسباب الاختصار (ومنها) أن بعض العلماء الصالحين.