وأما جهاد أرباب الظلم والمنكر والبدع فعلى ثلاث مراتب: الأول باليد، وإن عجز فباللسان، وإن عجز فبالقلب. هذه مراتب الجهاد وهي ثلاثة عشر، من لا حظ له منها فهو منافق "من مات ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق".
وأكمل الخلق في مجموع هذه المراتب هو سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه من أول يوم البعث إلى يوم الوفاة لم يزل في الجهاد يدعو الجن والإنس، والعرب والعجم، والصغير والكبير، والعبد والحر، والأنثى والذكر إلى الحق ويريهم الطريق المستقيم ويمنعهم من الكفر والضلال - صلى الله عليه وسلم -، ولما أطلق لسانه بسب الأصنام قامت كفار قريش بعداوته، ولما بلغوا من أذيته الغاية ومن معاداته النهاية، أمر بالهجرة فهاجر جماعة إلى أرض الحبشة عثمان بن عفان ورقية ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعشرة غيرهم.
ثم أسلم حمزة، وفشا الإسلام وتزايد فاضطراب الكفار لذلك اضطرابا شديدًا، ثم تعاقدوا على ألا يناكحوا بني عبد المطلب وبني عبد مناف ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكالموهم حتى يسلموا إليهم النبي وكتبوا بهذه الجملة كتابًا علقوه في سقف الكعبة، فشلت يد الكاتب، وأكلت الصحيفة الأرضة، إلا موضع اسم الله ورسوله هذا وبنو عبد المطلب محصورون في الشعب مدة ثلاث سنين، حتى أخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبر أبا طالب بذلك، وهو أخبر كفار قريش، وقال لهم: انظروا فإن كذب أسلمناه لكم، وإن صدق فارجعوا عن هذا الحال فقالوا قد أنصفت، ولا أنزلوا الصحيفة ورأوها ازدادوا كفرًا وطغيانًا، ثم بعد ستة أشهر توفى أبو طالب، وبعد ثلاثة أيام توفيت خديجة، وتضاعفت أذية الكفار، فخرج - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى الطائف، فلم يجد من الطائف مساعدة ولا موافقة فرجع، ولا وصل في رجوعه إلى نخلة جاءه الجن، وعرضوا إسلامهم عليه، ولا رجع إلى مكة عرج به، فأخبر كفار قريش بما شاهد في تلك الليلة من رؤية الأنبياء وفرض الصلاة فلما سمعوا هذا ازدادوا في تكذيبهم، وزادوا في إيذائهم.