فالوحي - كما ترى - له دلالتان: الوحي الحَدَثُ، أي النزول الخفي من السماء، وهو سبب النبوة، وهو الذي انقطع.
والوحي الصفة، وهو لا ينقطع أبدًا، وعليه سمي هذا القرآن المجيد (وَحْيًا).
وقد يقول قائل هذه حقائق بَدَهِيَّةٌ فَلِمَ العَنَاءُ؟ أقول: نعم؛ ولكننا ننساها فنضل الطريق إلى القرآن! ..
وإنَّما مشكلة أجيالنا المعاصرة أنها أضاعت بَدَهِيَّاتِهَا! حتى صرنا في حاجة إلى إعادة تقرير معنى (الدين) نفسه!
نعم! إنَّ تَلَقِّي القرآن بوصفه (وَحْيًا) هو المفتاح الأساس لاكتشاف كنوزه الروحية، والتخلق بحقائقه الإيمانية العظمى!
النور .. تلك هي طبيعة الوحي وصِبْغَتُهُ، وصفته الثابتة للقرآن، حقيقة جوهرية لا تنفك عنه .. والنور روحٌ، لكنه روحٌ يسري في كلمات القرآن بخفاء، وإنَّما المؤمنون وحدهم يبصرون جداوله الرقراقة، وهي تتدفق بالجمال والجلال!
ولكن كيف يكون هذا؟
لنعد إلى مثال النجم المذنَّب! .. إنَّ ذلك النَّيْزَكَ الناري الواقع من السماء إلى الأرض، ما يزال يحتفظ بأسرار العالم الخارجي الذي قَدِمَ منه!
إنَّه فِهْرِسْتٌ مكنون، لو تدبرته لوجدته يكتنز خريطةَ الكون كله! ويحتفظ من الأسرار ما عجزت عن إدراكه أحدث مراصد الفلك، وأعقد معادلات الرياضيات، وأحدث نظريات الفيزياء! .. إنَّه لم يفقد حرارته ولا طاقته قط!
وإنما حُجِبَ لهيبُه رحمةً بالناس، وتيسيرًا لهم، وتشجيعًا للسائرين في الظلمات على حمل قنديله الوهاج، والقبض عليه بأصابع غير مرتعشة، بل على احتضانه وضمه إلى القلب، نورًا متوهجًا بين الجوانح!