وطلبوا منهُ أنْ يطردَ مَنْ كان معهُ من المؤمنينَ؛ استكبارًا منهم، واستنكافًا على الحقِّ وعلى الخلقِ، فبيَّنَ لهم أنهُ ليسَ بهِ ضلالٌ، وإنما بهِ تزولُ الضلالةُ عن الخلقِ، وأنهُ رسولٌ أمينٌ، على بينةٍ من ربهِ وبراهينَ واضحةٍ، وأنَّ المؤمنينَ لا يحلُّ طردُهم، بلْ حقُّهم الإكرامُ والاحترامُ، وأنهُ لا يدَّعي لهم طورًا يزاحمُ فيه الربَّ، فقالَ: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾ [هود: ٣١].
فلم يزَلْ يدعُوهم ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، فلم يزِدْهم دعاؤهُ إلا فرارًا ونفورًا وإعراضًا، وتواصيًا منهم على الإقامةِ على ما هم عليهِ من عبادةِ غيرِ اللهِ والتمسكِ بها؛ فقالَ نوحٌ: ﴿رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (٢١) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (٢٢) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (٢٣)﴾ [نوح: ٢١ - ٢٣].
فلما رأى أنَّ التذكيرَ لا ينفعُ فيهم بوجهٍ من الوجوهِ، وأنهُ كلَّما جاءَ قرنٌ كان أخبثَ مما قبلَهُ، قالَ: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧)﴾ [نوح: ٢٦ - ٢٧].
فأجابَ اللهُ دعوتَهُ، وأمرَهُ أنْ يصنعَ الفلكَ برعايةٍ منهُ، وحسنِ نظرٍ، وتعليمٍ من اللهِ لهُ هذهِ الصنعةَ التي امتنَّ اللهُ بها على العبادِ، وصارَ نوحٌ لهُ الفضلُ والابتداءُ بهذهِ الصناعةِ التي حصلَ بها من المنافعِ الدينيةِ والدنيويةِ في جميعِ الأوقاتِ ما لا يعدُّ ولا يُحصَى. وأخبرَهُ اللهُ بتحتمِ إغراقِهم، [وألَّا](١) يُخاطِبَ ربَّهُ فيهم؛ فإنهم ظالمونَ.