ثم انتقلَ إلى القمرِ، فلما رآهُ بازغًا: ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ [الأنعام: ٧٧]، يُرِيهم -صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهِ- وقدْ صوَّرَ نفسَهُ بصورةِ الموافقِ لهم، لكن لا على وجهِ التقليدِ، بلْ يقصدُ إقامةَ البرهانِ على إلهيةِ النجومِ والقمرِ، فالآنَ وقدْ أفلَتْ، وتبيَّنَ بالبرهانِ العقليِّ معَ السمعيِّ بطلانُ إلهيتِها، فأنا إلى الآن لم يستقِرْ لي قرارٌ على ربٍّ وإلهٍ عظيمٍ.
﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً﴾ قالَ: ﴿هَذَا أَكْبَرُ﴾ من النجومِ ومن القمرِ، فإنْ جرَى عليها ما جرَى عليهما كانتْ مثلَهما، ﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ﴾ وقدْ تقررَ عندَ الجميعِ فيما سبَقَ أنَّ عبادةَ مَنْ يأفلُ مِنْ أبطلِ الباطلِ، فحينئذٍ ألزمَهم بهذا الإلزامِ ووجَّهَ عليهم الحجةَ فقالَ: ﴿يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ أي: ظاهرِي وباطنِي، ﴿لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
فهذا برهانٌ عقليٌ واضحٌ أنَّ الخالقَ للعالمِ العلويِّ والسفليِّ هوَ الذي يتعينُ أنْ يُقصدَ بالتوحيدِ والإخلاصِ، وأنَّ هذهِ الأفلاكَ والكواكبَ وغيرَها مخلوقاتٌ مدبَّراتٌ، ليسَ لها من الأوصافِ ما تستحقُّ العبادةُ لأجلِها.
فجعلُوا يخوِّفونَهُ آلهتَهم أنْ تمسَّهُ بسوءٍ، وهذا دليلٌ على أنَّ المشركينَ عندَهم من الخيالاتِ الفاسدةِ والآراءِ الرديئةِ ما يعتقدونَ أنَّ آلهتَهم تنفعُ مَنْ عبَدَها وتضرُّ مَنْ تركَها أو قَدَحَ فيها.