للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكانتْ قدْ نشأتْ نشأةَ الصالحاتِ الصديقاتِ، وعكفَتْ على عبادةِ ربِّها، ولزمَتْ محرابَها، فكان زكريا كلَّما دخلَ عليها المحرابَ وجدَ عندها رزقًا، قالَ: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾؛ فإنهُ ليسَ لها كافلٌ غيرَ زكريا، ﴿قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: رزقُهُ تعالى يأتي بطرقٍ معهودةٍ، وبطرقٍ أخرى، واللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ.

فحينَ رأى هذهِ الحالةَ ذكَّرَهُ ذلكَ لطفَ ربهِ، ورَجَّاهُ إلى رحمتهِ، فدعا اللهَ أنْ يهبَ لهُ ولدًا يرثُهُ علمَهُ ونبوتَهُ، ويقومُ بعدَهُ في بني إسرائيلَ في تعليمِهم وهدايتِهم.

﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ أي: بعيسى ، ﴿وَسَيِّدًا﴾ أي: عظيمًا عندَ اللهِ، وعندَ الخلقِ؛ لما جبلَهُ اللهُ عليهِ من الأخلاقِ الحميدةِ، والعلومِ العظيمةِ، والأعمالِ الصالحةِ، ﴿وَحَصُورًا﴾ أي: ممنوعًا بعصمةِ اللهِ وحفظهِ، ووقايتهِ من مواقعةِ المعاصِي؛ فوصفَهُ اللهُ بالتوفيقِ لجميعِ الخيراتِ، والحمايةِ من السيئاتِ والزلاتِ؛ وهذا غايةُ كمالِ العبدِ.

فتعجَّبَ زكريا من ذلكَ، وقالَ: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (٩)[مريم: ٨ - ٩] وهذا أعجبُ من حملِها وهيَ عاقرٌ على كبرِكَ.

فمن فرحهِ ورغبتهِ العظيمةِ في طمأنينةِ قلبهِ قالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ تدلُّني على وجودِ الولدِ، ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ [مريم: ١٠]، ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ [آل عمران: ٤١]، وهذهِ آيةٌ كبرى: يُمنعُ من الكلامِ الذي هوَ أسهلُ ما يقدرُ عليهِ الإنسانُ، وهوَ سويٌّ، فلا يقدرُ أنْ يكلمَ أحدًا إلا بالإشارةِ، ومعَ ذلكَ لسانهُ منطلقٌ بذكرِ اللهِ وتسبيحهِ وتحميدهِ، فحينئذٍ تمَّتْ لهُ البشارةُ من اللهِ، وعرَفَ أنهُ لابدَّ أنْ يكونَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>