للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

* وفي تصريفِ الرياحِ: آياتٌ عظيمةٌ على وحدانيةِ اللهِ، وتفردهِ بالكمالِ المطلقِ؛ فتارةً تكون باردةً وحارةً وبينَ ذلكَ، وجنوبًا وشمالًا، وشرقًا ودَبُورًا (١) وبينَ ذلكَ، وتارةً تثيرُ السحابَ، وتارةً تؤلِّفُ بينَهُ، وتارةً تلقِّحهُ وتدرُّهُ، وتارةً تمزِّقُهُ وتزيلُ ضررَهُ، وتارةً تُرسَلُ بالرحمةِ، وتارةً تُرسَلُ بالعذابِ؛ فمَن الذي صرَّفَها هذا التصريفَ، ورتبَ عليها من المنافعِ للعبادِ شيئًا كثيرًا إلا العزيزُ الحكيمُ، الرحيمُ اللطيفُ بعبادهِ، المستحقُّ للمحبةِ والثناءِ والشكرِ والحمدِ من الخليقةِ.

* وفي تسخيرِ السحابِ بينَ السماءِ والأرضِ: على خفتهِ ولطافتهِ، يحملُ الماءَ الكثيرَ، فيسوقهُ اللهُ إلى حيثُ يشاءُ، ويجعلُهُ حياةً للبلادِ والعبادِ، ويروِي بهِ التلولَ والوِهادَ، وينزلُهُ على الخلقِ وقتَ حاجتِهم إليهِ، ويصرفُ عنهم ضررَهُ، فينزلُهُ رحمةً ولطفًا، ويصرِّفهُ عنايةً وعطفًا، فما أعظمَ سلطانَهُ، وأغزرَ إحسانَهُ، وألطفَ امتنانَهُ!

أليسَ من أقبحِ القبيحِ وأظلمِ الظلمِ: أنْ يتمتعَ العبادُ برزقهِ، ويعيشوا ببرِّهِ، وهم يستعينونَ بذلكَ على مساخطِهِ ومعاصيهِ؟! ومعَ ذلكَ -من كمالِ حلمهِ وعفوهِ وصفحهِ- يوالِي عليهم الإحسانَ، خيرُهُ إليهم على الدوامِ نازلٌ، وشرُّهم إليهِ في كلِّ وقتٍ صاعدٌ.

* والحاصلُ: أنهُ كلَّما تدبَّرَ العاقلُ في هذهِ المخلوقاتِ، وتغلغلَ فكرهُ في بدائعِ الكائناتِ؛ عَلِمَ أنها خُلقَتْ للحقِّ وبالحقِّ، وأنها صحائفُ آياتٍ، وكتبُ براهينَ، ودلالاتٌ على جميعِ ما أخبرَ بهِ عن نفسهِ ووحدانيتهِ، وما أخبرَتْ بهِ الرسلُ مِنْ اليومِ الآخرِ، وأنها مدبَّراتٌ مسخراتٌ، ليسَ لها تدبيرٌ ولا استعصاءٌ على مدبِّرِها ومصرِّفِها؛ فتعرفُ أنَّ العالمَ العلويَّ والسفليَّ كلَّهم إليهِ مفتقرونَ، وإليهِ صامدونَ، وأنهُ الغنيُّ بالذاتِ عن جميعِ المخلوقاتِ، فلا إلهَ إلا هوَ، ولا ربَّ سواهُ.


(١) الريح الدَّبُور: ريح تهب من نحو المغرب، وهي تقابل ريح الصبا والقبول. (لسان العرب: ٤/ ٢٧١).

<<  <  ج: ص:  >  >>