كما يتشبع الإسفنج الظمآن بالماء والأرض الجافة الخالية بالغيث، كذلك كانت ظروف العالم عندما جاءت سحب العلوم والمعرفة والثقافة العربية الإسلامية، فقد هطلت عليه كتبًا امتازت بحسن التأليف ودقة التبويب وبراعة العرض وأخرى مترجمة قد اتسمت بركاكة الأسلوب وضعف العبارة. وما كاد المجتمع الإسلامي وغيره من المجتمعات التي اتصلت بالمسلمين ثقافيًا أو حربيًا أو تجاريًا يتسلم هذه الهبة العقلية حتى تفتحت العقول فأزهرت وأينعت وجاءت إلى الإنسانية بالخير العميم. وإذا تركنا الشرق إلى الغرب واتجهنا إلى سالرنو وجدناها -وقد استقبلت الموجة الثقافية الإسلامية الأولى- تنهض وتتطور وتتبوأ مكانًا ساميًا جعلها ذات شهرة عالمية، ثم لم تكد تهضم ما تناولته حتى جاءتها موجة ثانية لكن هذه المرة من خلف الحصون الإسبانية حيث تدفقت ينابيع الحضارة العربية على مونبيلييه فبعثت فيها وفي سائر الأنحاء الأوربية حياة جديدة فتية نلمس آثارها العلمية الطبية لا في مونبيلييه فقط بل بولونيا وبادوا وباريس وأكسفورد أيضًا.
ومن أكبر مظاهر إقبال أوربا على تحصيل العلوم العربية هذا الشغف العظيم باقتناء الكتب التي ظهرت في تلك العصور، والتي كانت عربية التأليف إنسانية الغايات، وحتى ما ألفته أوربا وقتذاك إنما كان صورة من المؤلفات العربية، وما أقبلت أوربا على ما أقبلت عليه إلا سدًا للفراغ العلمي الذي كان مخيما عليها