وفي تلك الفترة ظهرت في ناحية أخرى من اليابسة مدينة لم يشعر بها أحد من قبل، وسرعان ما أصبحت ذات سيادة، وحصدت خيرًا كثيرًا. وهي تدين في كل ما بلغته إلى موقعها وطبيعتها فهي مجموعة ألسنة يابسة ممتدة في البحر الأدرياتيكي كادت تأتي عليها الحروب الداخلية وتجرفها أمواج البحر. هذه المدينة القابعة على جزر ريالتو والتي نعرفها تحت اسم البندقية، كانت تعيش في حماية قديس سرقته من مصر وهو القديس مرقس الذي أعيد جثمانه أخيرًا إلى القاهرة. وقد فرضت عليها جغرافيتها أن تعيش على التجارة، والتجارة البحرية بصفة خاصة، فبدأت بالملح والسمك، ومن ثم أخذت تتطور حتى علا شأنها واتسع أفقها وخرجت من محيطها الضيق واتصلت بالشرق العربي وشعوبه فلم يمض زمن طويل حتى أثرت من وراء صلاتها التجارية مع العرب ثراء عظيمًا حسدها عليه الغرب شعوبًا وحكومات.
فالبندقية كانت القنطرة بين الشرق والغرب وكانت تنعم بخيرات الشرق وكنوزه وحاصلاته التي حرمت منها أوربا زمنًا طويلا بسبب تعصبها الديني وأوامر الكنيسة التي تحذر من الاتجار مع المسلمين. لكن البندقية بما أوتيت من مهارة تجارية وسعة في التفكير بفضل اتصلاتها بالعرب استطاعت أن تتغلب على دسائس خصومها، فسياسيًا كانت تابعة لبيزنطة، وظلت هذه السيادة قائمة طالما كانت بيزنطة حورة قوية متسلطة على البحر، طريقها الوحيد إلى البندقية، ومن ثم ظهر لبيزنطة في تلك المياه النائية منافس جبار وهو قيصر دولة الإفرنج وطمع القيصر في البندقية وحاول