للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني؛ وكأنما حديثه عن السجع إنما هو حديث عن المعاني؛ لا عن الألفاظ؛ لأن الألفاظ عنده خدم للمعاني؛ والعناية بالخادم عناية بالمخدوم؛ فالسجع عند العرب، والتزامها استمراره من بين الأدلة التي تقطع بأنها تعني بمعانيها قدر عنايتها بالألفاظ وهي كما تعني بألفاظها؛ فتصلحها، وتهذبها، وتراعيها، وتلاحظ أحكامها؛ بالشعر تارة، وبالخطب أخرى، وبالأسجاع التي تلتزمها، وتتكلف استمرارها، فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها، وأفخم قدراً، في نفوسها؛ لأن الألفاظ، لما كانت عنوان معانيها وطريقاً إلى إظهار أغراضها ومراميها، أصلحوها، ورتبوها، وبالغوا في تحييرها، وتحسينها ليكون ذلك أوقع في السمع، وأذهب بها، في الدلالة على القصد.

فالمثل إذا كان مسجوعاً، لذ لسامعه، فحفظه، فإذا هو حفظه، كان جديراً باستعماله، ولو لم يكن مسجوعاً، لم تأنس النفس به، ولا أنقت لمستمعه، وإذا كان كذلك لم تحفظه، وإذا لم تحفظه، لم تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له، وجئ به من أجله.

وابن جنى بهذا، يبين لنا القيمة البلاغية للسجع، وهو تأثيره العجيب في النفوس فهو يجعلها تتقبل المعاني باستعذاب، وارتياح لإيقاعه، لما به من جرس آخد ممتع يجعل النفوس مشتافة لما وراءه من المعاني، والخواطر، والأفكار.

يقول ابن جنى: قال لنا أبو علي يوماً: قال أبو بكر، إذ لم تفهموا كلامي، فاحفظوه، فإنكم إذا حفظتموه. فهمتموه وكذلك الشعر: النفس له أحفظ و. إليه أسرع (١)


(١) الخصائص ١/ ٢١٦

<<  <   >  >>