للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والله - سبحانه وتعالى - سمى المتقاتلين: "مؤمنين"، أي: أنهم ليسوا بكفار ولا منافقين، فقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:٩].

وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفتي معاوية وعلي - رضي الله عنهما - المتقاتلتين: "مسلمتين"، فقال عن ابن بنته الحسن بن علي - رضي الله عنهم -: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ) (١).

فأصلح الله به بين شيعة علي وشيعة معاوية. قال ابن تيمية تعليقًا على هذا الحديث: «وبرأ -يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - الفريقين من الكفر والنفاق، وأجاز الترحم على قتلى الطائفتين -أي: في صفين-، وأمثال ذلك من الأمور التي يُعرف بها اتفاق علي وغيره من الصحابة على أن كل واحدة من الطائفتين مؤمنة» (٢).

وبين في مكان آخر عقيدة أهل السنة فيما حصل بينهم - رضي الله عنهم - فقال: «ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيِّرَ عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون.

وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يُغفر لهم من السيئات ما لا يُغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم. وقد ثبت بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أَنَّهُم خَيْرُ الْقُرُونِ) (٣)، وأن "المُدّ من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أُحُد ذهبًا ممن بعدهم" (٤).

ثم إذا كان قد صدر عن أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه، أو غُفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كُفِّرَ به عنه. فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور» (٥).

فاللهم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٠)} [الحشر:١٠].


(١) صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي - رضي الله عنهما -: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ) ... (٣/ ١٨٦)، رقم (٢٧٠٤). عن أبي بكرة - رضي الله عنه -.
(٢) مجموع الفتاوى لابن تيمية (٣٥/ ٧١).
(٣) بهذا اللفظ: (خَيْرُ الْقُرُونِ) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِمْ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ، ثُمَّ الرَّابِعُ لَا يَعْبَأُ اللهُ بِهِمْ شَيْئًا). حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني (٤/ ١٧٢)، ترجمة: زيد بن وهب. وقال أبو نعيم: «غريب».
وقد سبق حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ). صحيح البخاري وصحيح مسلم. وقد تقدم.
(٤) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ). صحيح البخاري وصحيح مسلم. وقد تقدم.
(٥) العقيدة الواسطية لابن تيمية (ص:١١٩ - ١٢١).

<<  <   >  >>