للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وحاصل عبارته هذه: أن حذيفة - رضي الله عنه - الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بال قائمًا مجروح؛ لكونه كذب في روايته لهذا الحديث. أفليس هذا هو الرفض بعينه يا قوم؟

ثم نقول له ولمن التبس عليه فهم الحديثين -أعني: حديث حذيفة وحديث عائشة - رضي الله عنهما - هذا-: إن الفقهاء والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء عيهم السلام لم يلتبس عليهم فهمهما، وخلصوا بعد النظر إليهما بعين البصيرة والإنصاف إلى مسلكين:

المسلك الأول: القول بنسخ حديث حذيفة - رضي الله عنه - من غير ردٍّ له ولا تكذيب، كما فعل صاحب الرسالة، وليته سلك هذا المسلك فأراح واستراح-. وقد مال إلى هذا أبو عوانة في مستخرجه وابن شاهين.

المسلك الثاني: مسلك التوفيق بين الحديثين. وهو الذي عليه الجمهور. قال ابن حجر: «والصواب: أنه غير منسوخ. والجواب عن حديث عائشة: أنه مستند إلى علمها، فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطّلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة. وقد بينا أن ذلك كان بالمدينة. فتضمن الرد على ما نفته من أن ذلك لم يقع بعد نزول القرآن» (١).

٢ - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَبُولُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا عُمَرُ! لَا تَبُلْ قَائِمًا. فَمَا بُلْتُ قَائِمًا بَعْدُ) (٢).

وهذا الحديث -كما بينت في تخريجه- أخرجه: ابن ماجة والترمذي، وكذلك أخرجه البيهقي (٣).

وفي هذا الحديث راوٍ متفق على ضعفه، وهو: عبد الكريم بن أبي المخارق (٤). ومع ذلك قال صاحب الرسالة عن هذا الحديث: "إنه حديث متواتر"! فيا للعجب!

وإن تعجبوا فاعجبوا من حال دعيّ العلم هذا؛ فإنه يضعِّف ويصحِّح الأحاديث وفق هواه، لا على وفق قواعد المحدِّثين! فتراه يصحِّح الحديث الضعيف إذا كان متمشيًا مع منهجه وإن ضعَّفه أهل العلم جميعًا، ويضعِّف الحديث الصحيح وإن أطبق أهل العلم جميعًا على صحته! وفيما سبق من الأمثلة دلالة واضحة على ذلك. ومثل هذا الصنف من البشر يستحيل أن تصل معه إلى قناعة أو نقطة محددة؛ لأنه لا يحكمه منهج أصلًا، ولا يرضى أن يحتكم معك إلى منهج لا يوافق أصوله ومعتقده وهواه.


(١) فتح الباري لابن حجر (١/ ٣٩٤).
(٢) سنن ابن ماجة، كتاب الطهارة وسننها، باب في البول قاعدًا (١/ ١١٢)، رقم (٣٠٨)، وسنن الترمذي، أبواب الطهارة، باب النهي عن البول قائمًا (١/ ١٧)، تحت رقم (١٢). وقال الترمذي: «وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعَّفه أيوب السختياني وتكلَّم فيه». وقال الألباني: «ضعيف». ضعيف سنن ابن ماجة للألباني (ص:٢٩)، رقم (٦٠).
(٣) السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الطهارة، أبواب الاستطابة، باب البول قاعدًا (١/ ١٦٥)، رقم (٤٩٣).
(٤) قال عنه الترمذي: «هو ضعيف عند أهل الحديث». سنن الترمذي (١/ ١٧). وقال ابن عبد البر: «وعبد الكريم هذا ضعيف، لا يختلف أهل العلم بالحديث في ضعفه». التمهيد لابن عبد البر (٢٠/ ٦٥).

<<  <   >  >>