للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فهل هؤلاء الصحابة الأجلاء - رضي الله عنهم - كانوا يفعلون ما يخالف الآداب السامية والأخلاق النبيلة؟ حاشاهم وكلا.

ثانيًا: استدل صاحب الرسالة على إبطال حديث حذيفة - رضي الله عنه - وردِّه بأدلة سمعية، وأورد ستة أحاديث قال عنها: "إنها جاءت ناسفة له"، يعني: لحديث حذيفة - رضي الله عنه - في بول النبي - صلى الله عليه وسلم - قائمًا.

وأنا بعون الله أوردها حديثًا حديثًا، وأبيِّن ما فيها؛ ليتضح الحق لطالبه ويستنير الطريق لسالكه:

١ - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، مَا كَانَ يَبُولُ إِلَّا قَاعِدًا) (١).

وهذا الحديث -كما بينت في تخريجه- أخرجه: ابن ماجة والترمذي والنسائي، كلهم من طريق المقدام بن شريح بن هانئ عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها -.

وهذا الحديث مختلف في صحته، فقد ضعَّفه الترمذي كما هو واضح من عبارته: هو «أحسن شيء في الباب وأصح». وضعَّفه كذلك العراقي والسيوطي وغير واحد من المتأخرين، كما نقله عنهم الألباني (٢)؛ لأن في بعض طرقه شريك بن عبد الله القاضي، وهو سيء الحفظ عند أهل العلم، لكن تابعه سفيان الثوري عند أبي عوانة وغيره. ويكون الحديث بهذه الطريق صحيحًا، وهو ما جزم به النووي والذهبي وابن حجر، ورجحه الألباني أخيرًا (٣).

فحديثٌ بهذه الصورة ليس له إلا طريق واحد -هو طريق المقدام بن شريح- إضافة إلى وجود الاختلاف فيه -كما سبق- يقول عنه صاحب الرسالة: "إنه متواتر"! فهل المتواتر عند أهل العلم هو الذي يرويه شخص واحد أم إنه الذي يرويه عدد كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم من أول السند إلى منتهاه؟ هذه إحدى طامَّاته.

وطامة أخرى أشد منها تمس صحابيًا كبيرًا استأثره النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعرفة المنافقين، وأعلمه بما كان وما يكون إلى يوم القيامة، كما في "صحيح مسلم" (٤)، وهو حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - صاحب سرِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال عنه ما يلي: «ومن حدَّث أنه بال قائمًا فقد جرَّحَتُهُ -أي: عائشة - رضي الله عنها -، ولا يمكن للسيدة عائشة - رضي الله عنها - أن ترمي غيرها بالكذب بأمرٍ لم تعلمه، فهي زوج الرسول وتعرف ما تقول».


(١) سنن ابن ماجة، كتاب الطهارة وسننها، باب في البول قاعدًا (١/ ١١٢)، رقم (٣٠٧)، وسنن الترمذي، أبواب الطهارة، باب النهي عن البول قائمًا (١/ ١٧)، رقم (١٢)، وسنن النسائي، كتاب الطهارة، البول في البيت جالسًا (١/ ٢٦)، رقم (٢٩). وقال الترمذي: «حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح». وقال الألباني: «صحيح». صحيح سنن ابن ماجة للألباني (١/ ١١٥)، رقم (٢٥٢).
(٢) السلسلة الصحيحة للألباني (١/ ٣٩٢).
(٣) المصدر السابق (١/ ٣٩١ - ٣٩٣).
(٤) رواه مسلم في الفتن، باب إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يكون إلى قيام الساعة، رقم (٧١٩١).

<<  <   >  >>