للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أدري بعد قوله هذا كيف يسوغ له أن يستدل بشيء من أحاديثه، وهو بهذه المنزلة عنده؟!

ولا تتعجبوا؛ فإن هذا ما حدث فعلًا، فقد استدلَّ في رسالته في الصفحة الحادية والثلاثين على وجوب الاستجابة لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما أخرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلّى - رضي الله عنه - قال: (مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أُصَلِّي فَدَعَانِي، فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ فَقُلْتُ: كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:٢٤]) (١)، الحديث؟

سادسًا: اتفق العلماء على: أنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الكذب، ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته وحال مرضه، ومعصوم - صلى الله عليه وسلم - كذلك من ترك بيان ما أُمر ببيانه، وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه، كما أنه في المقابل ليس معصومًا - صلى الله عليه وسلم - من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام، ونحوها مما لا نقص فيه لمنزلته، ولا فساد لما تمهّد من شريعته (٢).

وإذا اتضح هذا فليعلم أن قوله: (أَهَجَرَ)؟ -بفتحات- هو على الاستفهام. «وهو أصح من رواية من روى: (هَجَرَ) (٣)، و (يَهْجُرُ) (٤)؛ لأن هذا كله لا يصح منه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن معنى (هَجَرَ): هذى. وإنما جاء هذا من قائله استفهامًا للإنكار على من قال: لا تكتبوا، أي: لا تتركوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتجعلوه كأمر من هجر في كلامه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يهجر. وإن صحَّت الروايات الأخرى كانت خطًا من قائلها، قالها بغير تحقيق، بل لِمَا أصابه من الحيرة والدهشة؛ لعظيم ما شاهده من النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الحالة الدالة على وفاته وعظيم المصاب به، وخوف الفتن والضلال بعده، وأجرى الهجر مجرى شدة الوجع.

وقول عمر - رضي الله عنه -: (حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ) ردٌّ على من نازعه، لا على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. قاله القاضي عياض (٥).


(١) بهذا اللفظ بنصه: صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧)} [الحجر:٨٧] (٦/ ٨١)، رقم (٤٧٠٣).
(٢) شرح صحيح مسلم للنووي (١١/ ٩٠). وقد تقدم نقل الإجماعات فيما عُصم الأنبياء - عليهم السلام - منه.
(٣) جاءت هذه اللفظة في الرواية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: (يَوْمُ الخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ! ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ الحَصْبَاءَ، فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعُهُ يَوْمَ الخَمِيسِ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا. فَتَنَازَعُوا -وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ. وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَأَجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ. وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ). صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم (٤/ ٦٩ - ٧٠)، رقم (٣٠٥٣).
(٤) جاءت هذه اللفظة في الرواية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: (يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ! ثُمَّ جَعَلَ تَسِيلُ دُمُوعُهُ حَتَّى رَأَيْتُ عَلَى خَدَّيْهِ كَأَنَّهَا نِظَامُ اللُّؤْلُؤِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ائْتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ -أَوِ اللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ- أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا. فَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَهْجُرُ). صحيح مسلم. وقد تقدم.
(٥) شرح صحيح مسلم للنووي (١١/ ٩٢ - ٩٣). وانظر نص كلام القاضي عياض في: إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (٥/ ٣٨٠ - ٣٨١).

<<  <   >  >>