للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

سابعًا: أن عمر وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - ممن امتنع عن إحضار الكتف والدواة ليكتب لهم فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا - رضي الله عنهم - عصاةً، كما صورهم صاحب الرسالة؛ لأن أمره هذا - عليه الصلاة والسلام - لم يكن للوجوب، بل للندب. ويدلُّ عليه: أن طلبه - صلى الله عليه وسلم - هذا منهم كان في يوم الخميس، وقد عاش - صلى الله عليه وسلم - بعده إلى يوم الاثنين، ولم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - عاود أمرهم بذلك. ولو كان واجبًا لم يتركهم لاختلافهم؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - لا يترك التبليغ لمخالفة من خالف. وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم، فإذا عزم امتثلوا (١).

وفَهْمُ الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين لأمره - صلى الله عليه وسلم - هذا بأنه ليس للوجوب كفهمهم - رضي الله عنهم - لقوله - صلى الله عليه وسلم - لهم: (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) (٢). حيث تخوف أناس من فوات الوقت فَصَلُّوا في الطريق، وتمسك آخرون بظاهر النص فلم يُصَلُّوا إلا بعد أن وصلوا، فلم يعنِّف - عليه الصلاة والسلام - أحدًا من الفريقين (٣).

وقال البيهقي: «ولو كان ما يريد (٤) النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب لهم شيئًا مفروضًا لا يستغنون عنه لم يتركه باختلافهم ولغطهم؛ لقول الله - عز وجل -: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:٦٧]، كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه» (٥). قال النووي: وهذا «كما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكره في الحديث» (٦).

ثامنًا: اختلف العلماء في المراد بالكتاب الذي همَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتبه لهم:

فقيل: أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب كتابًا ينصّ فيه على الأحكام؛ ليرتفع الاختلاف.

وقيل: بل أراد - صلى الله عليه وسلم - أن ينصّ على أسامي الخلفاء بعده؛ حتى لا يقع بينهم الاختلاف. قاله سفيان بن عيينة. ويؤيده: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة - رضي الله عنها -: (ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ أَبَاكِ وَأَخَاكِ؛ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا؛ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولُ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى، وَيَأْبَى اللهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ) (٧). أخرجه مسلم. ومع ذلك لم يكتب.


(١) فتح الباري لابن حجر (١/ ٢٠٩).
(٢) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا لما رجع من الأحزاب: (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ)، الحديث. صحيح البخاري، أبواب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً (٣/ ١٥)، رقم (٩٤٦)، وصحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين (٣/ ١٣٩١)، رقم (١٧٧٠). وفي رواية مسلم: "الظهر" بدل "العصر".
(٣) تمام الحديث السابق: (فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ. قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ). صحيح البخاري، أبواب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً (٣/ ١٥)، رقم (٩٤٦)، وصحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين (٣/ ١٣٩١)، رقم (١٧٧٠). واللفظ لمسلم.
(٤) كذا في دلائل النبوة للبيهقي، ولعل الصواب: مراد.
(٥) دلائل النبوة للبيهقي (٧/ ١٨٤).
(٦) شرح صحيح مسلم للنووي (١١/ ٩٠).
(٧) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - (٤/ ١٨٥٧)، رقم (٢٣٨٧).

<<  <   >  >>