(وَيَجِبُ عَلَى النَّاسِ نَصْبُ إمَامٍ) يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ كَسَدِّ الثُّغُورِ وَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ وَقَهْرِ الْمُتَغَلِّبَةِ وَالْمُتَلَصِّصَةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَصْبِهِ حَتَّى جَعَلُوهُ أَهَمَّ الْوَاجِبَاتِ وَقَدَّمُوهُ عَلَى دَفْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَلَى ذَلِكَ (وَلَوْ) كَانَ مَنْ يُنْصَبُ (مَفْضُولًا) فَإِنَّ نَصْبَهُ يَكْفِي فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ النَّصْبِ وَقِيلَ: لَا بَلْ يَتَعَيَّنُ نَصْبُ الْفَاضِلِ وَذَهَبَتْ الْخَوَارِجُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ نَصْبُ إمَامٍ وَالْإِمَامِيَّةُ إلَى وُجُوبِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
ــ
[حاشية العطار]
حِسًّا وَمَعْنًى اهـ.
(قَوْلُهُ: وَيَجِبُ) أَيْ شَرْعًا لَا عَقْلًا خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَمَّا عَامَّتُهُمْ فَمُوَافِقُونَ لَنَا وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْخَوَارِجِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجِبُ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ وَيَجِبُ عِنْدَ ظُهُورِ الظُّلْمِ وَبَعْضٌ مِنْهُمْ يَجِبُ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَدْلِ لِإِظْهَارِ شَعَائِرِ الشَّرْعِ لَا عِنْدَ ظُهُورِ الظُّلْمِ؛ لِأَنَّ الظَّلَمَةَ رُبَّمَا لَمْ يُطِيعُوهُ وَيَصِيرُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْفِتَنِ (قَوْلُهُ: عَلَى النَّاسِ) أَيْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ. وَالْآحَادُ تَبَعٌ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ عَدَدٍ وَلَا اتِّفَاقٍ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ بَلْ لَوْ تَعَلَّقَ الْحَلُّ وَالْعَقْدُ بِوَاحِدٍ يُطَاعُ كَفَتْ بَيْعَتُهُ (قَوْلُهُ: نَصْبُ إمَامٍ) مِنْ الْإِمَامَةِ وَهِيَ رِيَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا خِلَافَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِهَذَا الْقَيْدِ خَرَجَتْ النُّبُوَّةُ وَبِقَيْدِ الْعُمُومِ خَرَجَ مِثْلُ الْقَضَاءِ وَالرِّيَاسَةِ فِي بَعْضِ النَّوَاحِي وَكَذَا رِيَاسَةُ مَنْ جَعَلَهُ الْإِمَامُ نَائِبًا عَنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَنَصْبُهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَلَا خَفَاءَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعِلْمِيَّةِ دُونَ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَلَكِنْ لَمَّا شَاعَتْ بَيْنَ النَّاسِ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ اعْتِقَادَاتٌ فَاسِدَةٌ وَاخْتِلَافَاتٌ لَا سِيَّمَا مِنْ فِرَقِ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ وَمَالَتْ كُلُّ فِئَةٍ إلَى تَعَصُّبَاتٍ تَكَادُ تُفْضِي إلَى رَفْضِ كَثِيرٍ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَبَعْضِ عَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَدْحِ فِي الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ وَأَفْضَلِيَّتِهِمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ أَلْحَقَ الْمُتَكَلِّمُونَ مَبْحَثَ الْإِمَامَةِ بِمَبَاحِثِ عِلْمِ الْكَلَامِ.
(قَوْلُهُ: وَقَدَّمُوهُ عَلَى دَفْنِهِ) تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ رَبَّ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ لَا بُدَّ لِهَذَا الْأَمْرِ مِمَّنْ يَقُومُ بِهِ فَانْظُرُوا وَهَاتُوا آرَاءَكُمْ رَحِمَكُمْ اللَّهُ فَتَبَادَرَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَقَالُوا صَدَقْت وَلَكِنَّا نَنْظُرُ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْإِمَامِ (قَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَ مَفْضُولًا) فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْإِمَامِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا أَوْ مَفْضُولًا وَتَقْدِيمُ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ قَبِيحٌ عَقْلًا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ} [يونس: ٣٥] الْآيَةَ وَالْمَسَاوِئُ لَا تَرْجِيحَ لَهُ فَيَسْتَحِيلُ تَقْدِيمُهُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَهُوَ دَلِيلٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لَا يَحْتَاجُ لِبَيَانٍ (قَوْلُهُ: وَالْإِمَامِيَّةُ) فِرْقَةٌ مِنْ الشِّيعَةِ فَإِنَّهُمْ تَفَرَّقُوا فَرِقًّا كَالْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ تَكَفَّلَ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي كِتَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ بِبَيَانِ مَذَاهِبِهِمْ وَذُكِرَتْ آخِرَ الْمَوَاقِفِ بِاخْتِصَارٍ وَكَانَ نَصِيرُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ إمَامِيًّا وَلِذَلِكَ لَوَّثَ كِتَابَهُ مَتْنَ التَّجْرِيدِ بِمَا خَتَمَهُ بِهِ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ وَالتَّكَلُّمِ فِي حَقِّ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِمَنَاصِبِهِمْ الْعَالِيَةِ وَكُنْت رَأَيْت فِي حَاشِيَةٍ لِبَعْضِ فُضَلَاءِ الرُّومِ مُكْتَتَبَةً عَلَى خُطْبَتِهِ أَنَّ بَعْضَ شُرَّاحِ ذَلِكَ الْمَتْنِ نَقَلَ عَنْ وَلَدِ النَّصِيرِ أَصِيلِ الدِّينِ أَنَّ وَالِدَهُ وَصَلَ فِيهِ إلَى مَبْحَثِ الْإِمَامَةِ وَمَاتَ فَأَكْمَلَهُ ابْنُ الْمُطَهَّرِ الْحِلِّيِّ وَقَدْ كَانَ مِنْ غُلَاةِ الشِّيعَةِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْمَطَاعِنَ وَيَخْدِشُ هَذَا النَّقْلَ مَا رَأَيْته فِي كَثِيرٍ مِنْ التَّوَارِيخِ أَنَّ النَّصِيرَ أَلَّفَ التَّجْرِيدَ أَهْدَاهُ لِلْمُعْتَصِمِ الْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ فَلَمْ يَحْتَفِلْ بِهِ وَأَلْقَاهُ فِي الدِّجْلَةِ فَلَمَّا قَدِمَ هُولَاكُو إلَى بَغْدَادَ لِحَرْبِ الْخَلِيفَةِ صَحِبَهُ النَّصِيرُ وَأَغْرَاهُ عَلَى قَتْلِ الْخَلِيفَةِ وَبَقِيَ النَّصِيرُ مَعَ هُولَاكُو إلَى بَعْدِ ذَلِكَ مُدَّةً مَعَ مَزِيدِ الرِّفْعَةِ وَعُلُوِّ الشَّأْنِ حَتَّى مَاتَ.
(قَوْلُهُ: إلَى وُجُوبِهِ عَلَى اللَّهِ) قَالُوا إنَّ الْإِمَامَ لُطْفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ عِبَادِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute