(وَالزَّمَانُ
ــ
[حاشية العطار]
بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ الْهَوَاءِ عَنْهَا انْكَسَرَتْ الْقَارُورَةُ إلَى خَارِجٍ وَإِذَا أَخْرَجْنَاهَا عَنْهَا بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْهَوَاءِ انْكَسَرَتْ إلَى دَاخِلٍ وَلَوْلَا أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ بِالْهَوَاءِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأُنْبُوبَةِ بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ شَيْئًا آخَرَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى امْتِنَاعِ الْخَلَاءِ وَقَدْ قَالَ شَارِحُ حِكْمَةِ الْعَيْنِ أَنَّ هَذِهِ إقْنَاعِيَّاتٌ لَا بُرْهَانِيَّاتٌ.
وَأَقُولُ مَسْأَلَةُ الْخِلَافِ وَمَسْأَلَةُ إثْبَاتِ الْمَيْلِ فِي الْأَجْسَامِ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ وَبِتَحْقِيقِهِمَا مَا يَنْكَشِفُ لِلْفَطِنِ أَسْرَارٌ غَرِيبَةٌ وَعَلَيْهِمَا يَنْبَنِي كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ عِلْمِ جَرِّ الْأَثْقَالِ وَعِلْمِ الْحِيَلِ وَاسْتِحْدَاثِ الْآلَاتِ الْعَجِيبَةِ وَوَقَعَ فِي زَمَانِنَا أَنْ جُلِبَتْ كُتُبٌ مِنْ بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ وَتُرْجِمَتْ بِاللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَفِيهَا أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ وَأَفْعَالٌ دَقِيقَةٌ اطَّلَعْنَا عَلَى بَعْضِهَا وَقَدْ اُسْتُخْرِجَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ بِوَاسِطَةِ الْأُصُولِ الْهَنْدَسِيَّةِ وَالْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ وَتَكَلَّمُوا فِي الصِّنَاعَاتِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْآلَاتِ النَّارِيَّةِ وَمَهَّدُوا فِيهَا قَوَاعِدَ وَأُصُولًا حَتَّى صَارَ ذَلِكَ عِلْمًا مُسْتَقِلًّا مُدَوَّنًا فِي الْكُتُبِ وَفَرَّعُوهُ إلَى فُرُوعٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ سَمَتْ بِهِ هِمَّتُهُ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى غَرَائِبِ الْمُؤَلَّفَاتِ وَعَجَائِبِ الْمُصَنَّفَاتِ انْكَشَفَ لَهُ حَقَائِقُ كَثِيرَةٌ مِنْ دَقَائِقِ الْعُلُومِ وَتَنَزَّهَتْ فِكْرَتُهُ إنْ كَانَتْ سَلِيمَةً فِي رِيَاضِ الْفُهُومِ:
فَكُنْ رَجُلًا رِجْلُهُ فِي الثَّرَى ... وَهَامَةُ هِمَّتِهِ الثُّرَيَّا
فَالنَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى حَقَائِقِ الْمَعَارِفِ تَتَكَمَّلُ وَالْفَاضِلُ الْكَامِلُ بِمَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ يَتَفَوَّقُ وَيَتَفَضَّلُ لَا بِتَحْسِينِ هَيْئَةِ اللِّبَاسِ وَالْمُزَاحَمَةِ عَلَى التَّصَدُّرِ فِي مَجَالِسِ النَّاسِ.
قَالَ الْحَكِيمُ الْفَارَابِيُّ:
أَخِي خَلِّ بَاطِلَ ذِي حَيِّزٍ ... وَكُنْ وَالْحَقَائِقَ فِي حَيِّزِ
فَمَا الدَّارُ دَارُ مُقَامٍ لَنَا ... وَمَا الْمَرْءُ فِي الْأَرْضِ بِالْمُعْجِزِ
يُنَافَسُ هَذَا لِذَاكَ عَلَى ... أَقَلَّ مِنْ الْكَلِمِ الْمُوجَزِ
مُحِيطُ الْعَوَالِمِ أَوْلَى بِنَا ... فَمَاذَا التَّنَافُسُ فِي الْمَرْكَزِ
فَلَا تَجْعَلْ سَعْيَك لِغَيْرِ تَحْصِيلِ الْكَمَالَاتِ الْعِرْفَانِيَّةِ مَصْرُوفًا وَلَا تَتَّخِذْ غَيْرَ نَفَائِسِ الْكُتُبِ أَلِيفًا أَلُوفًا:
وَلَا تَكُ مِنْ قَوْمٍ يُدِيمُونَ سَعْيَهُمْ ... لِتَحْصِيلِ أَنْوَاعِ الْمَآكِلِ وَالشُّرْبِ
فَهَذِي إذَا عُدَّتْ طِبَاعَ بَهَائِمَ ... وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْبَهِيمِ وَذِي اللُّبِّ
وَهَذِهِ نَفْثَةُ مَصْدُورٍ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
لَعَمْرِي لَقَدْ تَسَاوَى الْفَطِنُ وَالْأَبْلَهُ الْأَفِنُ وَاسْتَنْسَرَ الْبُغَاثُ وَسُدَّ طَرِيقُ النَّظَرِ عَلَى الْمُنَاظِرِ الْبَحَّاثِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
(قَوْلُهُ: وَالزَّمَانُ) أَنْكَرَ وُجُودَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَجَعَلُوهُ أَمْرًا اعْتِبَارِيًّا وَسَيَأْتِي كَلَامُهُمْ وَأَثْبَتَهُ الْحُكَمَاءُ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ جَعَلَهُ مِنْ مَقُولَةِ الْكَمِّ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ وَحُجَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَارَّ الذَّاتِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْحَادِثُ فِي هَذَا الْوَقْتِ هُوَ الْحَادِثُ فِي زَمَنِ الطُّوفَانِ مَثَلًا وَبُطْلَانُهُ بَدِيهِيٌّ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَزِمَ تَقَدُّمُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ عَلَى بَعْضٍ تَقَدُّمًا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مَعَ الزَّمَانِ إذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ حَدَثَ هَذَا فِي آنٍ مُعَيَّنٍ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَأَنْ يُقَالَ: أَمْسِ قَبْلَ الْيَوْمِ وَالْغَدُ بَعْدَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآنَ وَالْقَبْلِيَّةَ وَالْبَعْدِيَّةَ أُمُورٌ تَلْحَقُ الزَّمَانَ فَلِلزَّمَانِ زَمَانٌ آخَرُ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى تَقَدُّمِ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ السَّابِقُ فِي زَمَانٍ وَاللَّاحِقُ فِي زَمَانٍ آخَرَ فَيَكُونُ الْأَمْسُ فِي زَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ وَالْيَوْمُ فِي زَمَانٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ وَيُنْقَلُ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَتَقَدُّمُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ عَلَى بَعْضٍ وَهَكَذَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ عَلَى بَعْضٍ كَتَقَدُّمِ الْمَاضِي عَلَى الْحَاضِرِ إنَّمَا هُوَ بِذَاتِهِ وَنَفْسِهِ لَا بِزَمَانٍ آخَرَ حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذُكِرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ الْمُجَرَّدَةَ الْمُنْصَرِمَةَ تَسْتَلْزِمُ تَصَوُّرَ تَقَدُّمٍ وَتَأَخُّرٍ لِلْأَجْزَاءِ الْمَفْرُوضَةِ لِعَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ بِخِلَافِ مَا حَقِيقَتُهُ غَيْرُ عَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ وَحُجَّةُ الْحُكَمَاءِ أَنَّ كَوْنَ الْأَبِ قَبْلَ الِابْنِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ فَتِلْكَ الْقَبْلِيَّةُ لَيْسَتْ بِنَفْسِ وُجُودِ الْأَبِ وَلَا بِنَفْسِ