مَثَلًا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: ١٠] ، وَقَدْ عَدَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ.
ــ
[حاشية العطار]
الَّذِي لَهُ نَفْسٌ قَوِيَّةٌ لَا يَصِيرُ مَغْلُوبًا بِأَحْكَامِ خُصُوصِيَّاتِ الْمَوَاطِنِ وَلَا يَحْجُبُهُ حُكْمُ مَوْطِنٍ عَنْ حُكْمِ الْمَوْطِنِ الْآخَرِ بَلْ يَعْرِفُهَا فِي سَائِرِ مَلَابِسِهَا إلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ تَمْهِيدِهِ مُقَدِّمَاتٍ كَأَنَّك بِمَا قَرَعَ سَمْعَك مِنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ اطَّلَعْت عَلَى حَقِيقَةِ الِانْطِبَاقِ بَيْنَ الْعَوَالِمِ فَإِنَّهَا بِأَسْرِهَا صُورَةٌ لِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَخَالِفَةٍ مِنْ جِهَةٍ تُخَالِفُ أَحْكَامَ الْمَوَاطِنِ الَّتِي تَسْتَوْطِنُهَا النَّفْسُ فِي مَدَارِجِ صُعُودِهَا إلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى فِي سَيْرِهَا الشُّهُودِيِّ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ الرُّؤْيَا أَوْ بِطَرِيقِ تَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ وَالْمُكَاشَفَةِ فَإِنَّ بَعْضَ النُّفُوسِ الْكَامِلَةِ تَتَّصِلُ فِي سَيْرِهَا الشُّهُودِيِّ بِعَالَمِ الْمُجَرَّدَاتِ وَتُشَاهِدُ بَعْضَ الْحَقَائِقِ بِصُوَرٍ غَيْرِ الصُّوَرِ الَّتِي كَانَتْ تُشَاهِدُهَا فِي عَالَمِ الْمَادِّيَّاتِ تَقْتَضِيهَا أَحْكَامُ ذَلِكَ الْعَالَمِ وَمَدَارِكُ هُبُوطِهَا أَيْ مَنَازِلُ هُبُوطِهَا إلَى عَالَمِ السُّفْلَيَاتِ الْمَادِّيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي سَيْرِهَا الْوُجُودِيِّ بَلْ انْكَشَفَ لَكَ أَسْرَارٌ غَامِضَةٌ مِنْ حَقِيقَةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَظُهُورُ الْمَبْدَأِ فِي الْكَثْرَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ الظُّهُورَ إنَّمَا يَنْحَصِرُ وَيَتَقَوَّمُ بِالنَّفْسِ وَمَرَاتِبِهِ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْعَلِيَّةِ وَأَسْرَارِ الْمَعَادِنِ مِنْ ظُهُورِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ الطَّاهِرَةِ لِلنَّشْأَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِالصُّوَرِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تُدْرِكُهَا وَتُشَاهِدُهَا، وَفِي النَّشْأَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِالصُّوَرِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا أَحْكَامُ تِلْكَ النَّشْأَةِ كَمَا فُصِّلَ فِي الشَّرِيعَةِ الْحَقَّةِ وَتَسَلَّفَتْ بِهِ إلَى حَقَائِقِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ ظُهُورِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ فِي الْمَوَاطِنِ الْمَعَادِيَّةِ بِصُوَرِ الْأَجْسَادِ وَكَيْفِيَّةِ وَزْنِ الْأَعْمَالِ وَسِرِّ حَشْرِ الْأَفْرَادِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِصُوَرِ الْأَخْلَاقِ الْغَالِبَةِ وَاطَّلَعَتْ عَلَى سِرِّ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: ٤٩] فَإِنَّ الْآيَةَ بِظَاهِرِهَا تَدُلُّ عَلَى إحَاطَةِ جَهَنَّمَ بِالْكَافِرِينَ فِي الزَّمَانِ الْحَالِّ
وَلَا حَاجَةَ إلَى الصَّرْفِ عَنْ الظَّاهِرِ بِنَاءً عَلَى التَّحْقِيقِ الَّذِي سَبَقَ فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ الرَّذِيلَةَ وَالْعَقَائِدَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي هِيَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ هِيَ بِعَيْنِهَا جَهَنَّمُ الَّتِي سَتَظْهَرُ عَلَيْهِمْ وَتُحِيطُ بِهِمْ فِي النَّشْأَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ فِي الصُّوَرِ الْمَوْعُودِ بِظُهُورِهَا عَلَيْهِمْ كَمَا أَنْذَرَهُمْ الشَّارِعُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنَّ نِيرَانَهَا كَذَا وَعَقَارِبَهَا كَذَا وَحَيَّاتِهَا كَذَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ عَذَابِهَا، فَجَهَنَّمُ مُحِيطَةٌ بِهِمْ حَالًا وَاسْتِقْبَالًا أَمَّا حَالًا فَهِيَ صُوَرُ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ وَالْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ، وَأَمَّا اسْتِقْبَالًا فَفِي الصُّوَرِ الْمَوْعُودِ بِظُهُورِهَا عَلَيْهِمْ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ ظُهُورِهَا فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الصُّوَرِ، وَهُمْ لِفَرْطِ جَهْلِهِمْ بِالْحَقَائِقِ وَأَنَّهَا فِي كُلِّ مَوْطِنٍ تَتَصَوَّرُ بِصُورَةٍ تَقْتَضِيهَا أَحْكَامُ ذَلِكَ الْمَوْطِنِ لَا يَعْرِفُونَ الْحَقَائِقَ إلَّا بِصُوَرِهَا الْمَأْلُوفَةِ فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ فَلَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ النَّارِ إلَّا بِالصُّوَرِ الْمُحْرِقَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَكَذَا سَائِرُ الْحَقَائِقِ، وَأَمَّا النَّفْسُ الْمُحِيطَةُ عِلْمًا بِالْحَقَائِقِ وَتَنَقُّلُهَا فِي الصُّوَرِ الْمُتَكَثِّرَةِ الْمُتَخَالِفَةِ بِحَسَبِ الْمَوَاطِنِ فَتَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، وَقَدْ يَنْعَكِسُ فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ ذَلِكَ الِانْتِقَالُ مِنْ صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ إلَى مِرْآةِ خَيَالِهِ الَّتِي هِيَ مِشْكَاةُ مِصْبَاحِ النَّفْسِ فَنَشَأَ بِمَعُونَةِ الْمِرْآةِ الَّتِي هِيَ الْخَيَالُ تِلْكَ الصُّوَرُ بِأَعْيَانِهَا مَعَ مُشَاهَدَتِهَا لِلصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ فَإِنَّ النَّفْسَ الْقَوِيَّةَ لَا يَشْغَلُهَا شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، وَلَا يُلْهِيهَا مَوْطِنٌ عَنْ مَوْطِنٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْحَالُ دَائِمًا لَهُمْ بَلْ مُخْتَلِفًا بِسَبَبِ خَوَاصِّ الْأَوْقَاتِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ الْأَحْوَالِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى رُؤْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ حِذَاءَ الْحَائِطِ وَرُبَّمَا شَغَلَ بَعْضَ الْمُكَاشَفِينَ مُشَاهَدَةُ صُوَرِ ذَلِكَ الْمَوْطِنِ عَنْ صُوَرِ هَذَا الْمَوْطِنِ عَلَى عَكْسِ حَالِ الْمَحْجُوبِينَ بَيِّنٌ كَمَا سَمِعْت مِنْ أُسْتَاذِي الْعَالِمِ الْعَامِلِ مُحْيِي الدِّينِ الْمِلَّةِ مُحَمَّدٍ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ نَقْلًا عَنْ بَعْضِ مَنْ لَاقَاهُ مِنْ الثِّقَاتِ أَنَّهُ كَانَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي فَارِسَ رَجُلٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فَقَالَ الْوَلِيُّ لِخَادِمِهِ أَخْرِجْ هَذَا الْحِمَارَ وَكَانَ ذَلِكَ الْوَلِيُّ مُسْتَغْرِقًا فِي حَالِهِ
ثُمَّ بَعْدَ أَنْ زَالَ عَنْهُ هَذَا الْحَالُ أَخْبَرَهُ الْخَادِمُ بِمَا جَرَى فَقَالَ الْوَلِيُّ مَا قُلْت إلَّا مَا رَأَيْت، وَلَمْ أَكُنْ وَاقِفًا عَلَى مَا تَقُولُ، وقَوْله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: ١٠] وَقَوْلُ الْفَاتِحِ الْخَاتَمِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَكْمَلُ التَّحِيَّاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute