. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية العطار]
فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ أَوَعَلَيَّ تَفْتَخِرُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَأَنَا الَّذِي أَقُولُ:
وَمُسَاهِرٌ بِالْغُنْجِ مِنْ لَحَظَاتِهِ ... قَدْ بِتّ أَمْنَعُهُ لَذِيذَ سِنَاتِهِ
أَصْبُو لِحُسْنِ حَدِيثِهِ وَعِتَابِهِ ... وَأُكَرِّرُ اللَّحَظَاتِ مِنْ وَجْنَاتِهِ
حَتَّى إذَا مَا الصُّبْحُ لَاحَ عَمُودُهُ ... وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ
فَقَالَ ابْنُ دَاوُد لِأَبِي عُمَرَ وَكَانَ حَاضِرًا بِمَجْلِسِ الْوَزِيرِ وَقْتَ الْمُنَاظَرَةِ أَيَّدَ اللَّهُ الْقَاضِيَ قَدْ أَقَرَّ بِالْمَبِيتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَادَّعَى الْبَرَاءَةَ مِمَّا يُوجِبُهُ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ مَذْهَبِي أَنَّ الْمُقِرَّ إذَا أَقَرَّ إقْرَارًا وَنَاطَهُ بِصِفَةٍ كَانَ إقْرَارُهُ مَوْكُولًا إلَى صِفَتِهِ
فَقَالَ ابْنُ دَاوُد لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ فَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قُلْته اخْتِيَارِيٌّ السَّاعَةَ وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْوَزِيرُ مُنْحَرِفًا عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ لِفَضْلِ تَرَفُّعِهِ وَتَقَاعُدِهِ عَنْ زِيَارَتِهِ مَائِلًا إلَى أَبِي بَكْرٍ الْمَالِكِيِّ الْقَاضِي لِمُوَاظَبَتِهِ عَلَى خِدْمَتِهِ وَلِذَلِكَ قَلَّدَهُ الْقَضَاءَ وَكَانَ أَبُو عُمَرَ مُتَرَفِّعًا عَلَى أَكْفَائِهِ مِنْ فُقَهَاءِ بَغْدَادَ لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ فَحَمَلَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَتَبُّعِ فَتَاوِيهِ حَتَّى ظَفِرُوا لَهُ بِفَتْوًى خَالَفَ فِيهَا الْجَمَاعَةَ وَخَرَقَ الْإِجْمَاعَ وَأَنْهَوْا ذَلِكَ إلَى الْخَلِيفَةِ وَالْوَزِيرِ فَعَقَدُوا مَجْلِسًا لِذَلِكَ وَفِيمَنْ حَضَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى السُّكُوتِ فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ مَا أَكَادُ أَقُولُ فِيهِمْ، وَقَدْ ادَّعَوْا عَلَيْهِ خَرْقَ الْإِجْمَاعِ وَأَعْيَاهُ الِانْفِصَالُ عَمَّا اعْتَرَضُوا بِهِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ قَوْلُ عِدَّةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَأَعْجَبُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ قَوْلُ إمَامِهِ مَالِكٍ وَهُوَ مَسْطُورٌ فِي الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ فَأَمَرَ الْوَزِيرُ بِإِحْضَارِ ذَلِكَ الْكِتَابِ فَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ فَأُعْجِبَ بِهِ غَايَةَ الْإِعْجَابِ وَتَعَجَّبَ مِنْ حِفْظِهِ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ وَغَفْلَةِ أَبِي عُمَرَ عَنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ وَسَارَ هَذَا مِنْ أَوْكَدِ الصَّدَاقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَزِيرِ اهـ.
أَقُولُ مَنْ تَأَمَّلَ مَا سَطَّرْنَاهُ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّصَدِّي لِتَرَاجُمِ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رُسُوخِ قِدَمِهِمْ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ لَهُمْ اطِّلَاعٌ عَظِيمٌ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْعُلُومِ وَإِحَاطَةٌ تَامَّةٌ بِكُلِّيَّاتِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا حَتَّى فِي كُتُبِ الْمُخَالِفِينَ فِي الْعَقَائِدِ وَالْفُرُوعِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ النَّقْلُ عَنْهُمْ فِي كُتُبِهِمْ وَالتَّصَدِّي لِدَفْعِ شُبَهِهِمْ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ تَجَاوُزُهُمْ إلَى النَّظَرِ فِي كُتُبِ غَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنِّي وَقَفْت عَلَى مُؤَلَّفٍ لِلْقَرَافِيِّ رَدَّ فِيهِ عَلَى الْيَهُودِ شُبَهًا أَوْرَدُوهَا عَلَى الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَمْ يَأْتِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ إلَّا بِنُصُوصِ التَّوْرَاةِ وَبَقِيَّةِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ حَتَّى يَظُنَّ النَّاظِرُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ مَا أَخَلُّوا فِي تَثْقِيفِ أَلْسِنَتِهِمْ وَتَرْقِيقِ طِبَاعِهِمْ مِنْ رَقَائِقِ الْأَشْعَارِ وَلَطَائِفِ الْمُحَاضَرَاتِ وَمَنْ نَظَرِ مَا دَارَ بَيْنَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبَيْنَ عَصْرِيِّهِ الْأَدِيبِ الصَّلَاحِ الصَّفَدِيِّ مِنْ الْمُرَاسَلَاتِ الْبَلِيغَةِ وَالْأَشْعَارِ الرَّقِيقَةِ عَلِمَ أَنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِمَّنْ يَخْضَعُ لَهُ رِقَابُ الْبُلَغَاءِ وَتَجْرِي فِي مِضْمَارِهِ سَوَابِقُ الْأُدَبَاءِ
وَكَذَا مَا دَارَ بَيْنَ سُلْطَانِ الْمُحَدِّثِينَ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ وَمَنْ عَاصَرَهُ مِنْ فُحُولِ الْأُدَبَاءِ مِنْ لَطَائِفِ الْأَشْعَارِ وَالنِّكَاتِ الْأَدَبِيَّةِ، وَكَذَا الْعَلَّامَةُ الدَّمَامِينِيُّ بَلْ وَبَيْنَ الْحَافِظِ السُّيُوطِيّ وَالسَّخَاوِيِّ مِنْ الْمُنَاقَضَاتِ وَمَا أَلَّفَهُ مِنْ الْمَقَامَاتِ وَفِيمَا انْتَهَى إلَيْهِ الْحَالُ فِي زَمَنٍ وَقَعْنَا فِيهِ عُلِمَ أَنَّ نِسْبَتَنَا إلَيْهِمْ كَنِسْبَةِ عَامَّةِ زَمَانِهِمْ فَإِنَّ قُصَارَى أَمْرِنَا النَّقْلُ عَنْهُمْ بِدُونِ أَنْ نَخْتَرِعَ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا، وَلَيْتَنَا وَصَلْنَا إلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بَلْ اقْتَصَرْنَا عَلَى النَّظَرِ فِي كُتُبٍ مَحْصُورَةٍ أَلَّفَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ الْمُسْتَمِدُّونَ مِنْ كَلَامِهِمْ نُكَرِّرُهَا طُولَ الْعُمُرِ وَلَا تَطْمَحُ نُفُوسُنَا إلَى النَّظَرِ فِي غَيْرِهَا حَتَّى كَانَ الْعِلْمُ انْحَصَرَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ عَلَيْنَا سُؤَالٌ مِنْ غَوَامِضِ عِلْمِ الْكَلَامِ تَخَلَّصْنَا عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا كَلَامُ الْفَلَاسِفَةِ وَلَا نَنْظُرُ فِيهِ أَوْ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ قُلْنَا لَمْ نَرَهَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَلَا أَصْلَ لَهَا أَوْ نُكْتَةٌ أَدَبِيَّةٌ قُلْنَا هَذَا مِنْ عُلُومِ أَهْلِ الْبَطَالَةِ وَهَكَذَا فَصَارَ الْعُذْرُ أَقْبَحُ مِنْ الذَّنْبِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَّا فِي مَجْلِسٍ فَالْمُخَاطَبَاتُ مُخَاطَبَاتُ الْعَامَّةِ وَالْحَدِيثُ حَدِيثُهُمْ فَإِذَا جَرَى فِي الْمَجْلِسِ نُكْتَةٌ أَدَبِيَّةٌ رُبَّمَا لَا نَتَفَطَّنُ لَهَا، وَإِنْ تَفَطَّنَّا لَهَا بَالَغْنَا فِي إنْكَارِهَا وَالْإِغْمَاضِ عَنْ قَائِلِهَا إنْ كَانَ مُسَاوِيًا وَإِيذَائِهِ بِشَنَاعَةِ الْقَوْلِ إنْ كَانَ أَدْنَى وَنَسَبْنَاهُ إلَى عَدَمِ الْحِشْمَةِ وَقِلَّةِ الْأَدَبِ
وَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ مَسْأَلَةٌ غَامِضَةٌ مِنْ أَيِّ عِلْمٍ كَانَ عِنْدَ ذَلِكَ تَقُومُ الْقِيَامَةُ وَتَكْثُرُ الْمَقَالَةُ وَيَتَكَدَّرُ الْمَجْلِسُ وَتَمْتَلِئُ الْقُلُوبُ بِالشَّحْنَاءِ وَتُغْمِضُ الْعُيُونُ عَلَى الْقَذْي فَالْمَرْمُوقُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute