للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَتَّى جَوَّزَ ضَرْبَ الْمُتَّهَمِ بِالسَّرِقَةِ لِيُقِرَّ وَعُورِضَ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَرِيئًا وَتَرْكُ الضَّرْبِ لِمُذْنِبٍ أَهْوَنُ مِنْ ضَرْبِ بَرِيءٍ (وَكَادَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يُوَافِقُهُ مَعَ مُنَادَاتِهِ عَلَيْهِ بِالنَّكِيرِ)

ــ

[حاشية العطار]

وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَصَوُّرِهِ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ تَنْقَسِمُ إلَى مَوَاقِعِ التَّعَبُّدَاتِ وَالْمُتَّبَعُ فِيهَا النُّصُوصُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَمَا لَمْ تُرْشِدْ النُّصُوصُ إلَيْهِ فَلَا تَعَبُّدَ بِهِ، وَإِلَى مَا لَيْسَ مِنْ التَّعَبُّدَاتِ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَلْفَاظِ كَالْأَيْمَانِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالطَّلَاقِ، وَقَدْ أَحَالَنَا الشَّرْعُ فِي مُوجِبَاتِهَا إلَى قَضَايَا الْعُرْفِ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَالِاكْتِفَاءِ بِالْعُثْكَالِ الَّذِي عَلَيْهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ إذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ مِائَةً لِمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَمْ يُنْسَخْ فِي شَرْعِنَا وَإِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى مَا يَنْضَبِطُ فِي نَفْسِهِ كَالنَّجَاسَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ وَطُرُقِ تَلَقِّي الْمِلْكِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ مُنْضَبِطَةٌ وَمُسْتَنِدَاتُهَا مَعْلُومَةٌ وَإِلَى مَا لَا يَنْضَبِطُ إلَّا بِالضَّبْطِ فِي مُقَابَلَةٍ كَالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ تَنْضَبِطُ بِضَبْطِ النَّجَاسَةِ وَالْحَظْرِ وَكَذَلِكَ الْأَمْلَاكُ مُنْتَشِرَةٌ تَنْضَبِطُ بِضَبْطِ طُرُقِ النَّقْلِ، وَالْإِبْدَاءُ مُحَرَّمٌ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ مِنْ غَيْرِ ضَبْطٍ وَيَنْضَبِطُ بِضَبْطِ مَا اسْتَثْنَى الشَّرْعُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَالْوَقَائِعُ إنْ وَقَعَتْ فِي جَانِبِ الضَّبْطِ أُلْحِقَتْ بِهِ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ أُلْحِقَتْ بِهِ، وَإِنْ تَرَدَّدَتْ بَيْنَهُمَا وَتَجَاذَبَهَا الطَّرَفَانِ أُلْحِقَتْ بِأَقْرَبِهِمَا وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَلُوحَ التَّرْجِيحُ لَا مَحَالَةَ فَخَرَجَ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَصْلَحَةٍ تُتَخَيَّلُ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ مَحْبُوسَةٍ بِالْأُصُولِ الْمُتَعَارِضَةِ لَا بُدَّ أَنْ تَشْهَدَ الْأُصُولُ بِرَدِّهَا أَوْ قَبُولِهَا (قَوْلُهُ: حَتَّى جَوَازُ إلَخْ) فَجَوَازُ الضَّرْبِ هُوَ الْحُكْمُ وَالْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ تَوَقُّعُ الْإِقْرَارِ (قَوْلُهُ: الْمُتَّهَمُ) بِالشُّهْرَةِ لَا بِسُوءِ الظَّنِّ قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَذْهَبِكُمْ وَمَذْهَبِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ انْتَهَى الْأَمْرُ بِهِ فِي اتِّبَاعِ الْمَصَالِحِ إلَى الْقَتْلِ فِي التَّعْزِيرِ وَالضَّرْبِ بِمُجَرَّدِ التُّهْمَةِ وَقَتْلِ ثُلُثِ الْأُمَّةِ

لِاسْتِصْلَاحِ

ثُلُثَيْهَا وَمُصَادَرَةِ الْأَغْنِيَاءِ وَقَطْعِ اللِّسَانِ فِي الْهَذْرِ عِنْدَ

الْمَصْلَحَةِ

وَمَا الَّذِي مَنَعَكُمْ مِنْ اتِّبَاعِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، وَالْحَاجَةُ قَدْ تَمَسُّ إلَى التَّعْزِيرِ بِالتُّهْمَةِ فَإِنَّ الْأَمْوَالَ مَحْبُوبَةٌ وَالسَّارِقُ لَا يُقِرُّ وَإِثْبَاتُهَا بِالْبَيِّنَةِ أَمْرٌ عَسِرٌ وَلَا وَجْهَ لِإِظْهَارِهَا إلَّا بِالضَّرْبِ، وَهَذِهِ

مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ

إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَدَاهَا؟ .

قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَنَا أَنَّنَا انْتَبَهْنَا لِأَصْلٍ عَظِيمٍ لَمْ يَكْتَرِثْ مَالِكٌ بِهِ، وَهُوَ أَنَّا قَدَّمْنَا إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى قَضِيَّةِ الْمَصْلَحَةِ وَكُلُّ مَصْلَحَةٍ نَعْلَمُ عَلَى الْقَطْعِ وُقُوعَهَا زَمَنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَامْتِنَاعَهُمْ عَنْ الْقَضَاءِ بِمُوجَبِهَا فَهِيَ مَتْرُوكَةٌ وَنَعْلَمُ عَلَى الْقَطْعِ أَنَّ الْأَعْصَار لَا تَنْفَكُّ عَنْ السَّرِقَةِ وَكَانَ ذَلِكَ يَكْثُرُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُعَزِّرُوا بِالتُّهْمَةِ، وَلَمْ يَقْطَعُوا لِسَانًا فِي الْهَذْرِ مَعَ كَثْرَةِ الْهَذَّارِينَ، وَلَا صَادَرُوا غَنِيًّا مَعَ كَثْرَةِ الْأَغْنِيَاءِ وَمَسِيسِ الْحَاجَاتِ، وَكُلُّ مَا امْتَنَعُوا عَنْهُ نَمْتَنِعُ عَنْهُ وَمَالِكٌ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْأَصْلِ فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَادَرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى نِصْفِ الْمَالِ وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَقَالَ لِمَنْ مَدَّ يَدَهُ إلَى لِحْيَتِهِ لِيَأْخُذَ الْقَذَى مِنْهَا أَبِنْ مَا أَبَنْت، وَإِلَّا أَبَنْت يَدَك وَقَطْعُ الْيَدِ لَا يُوجِبُونَهُ فِي مِثْلِهِ، وَلَا الْمُصَادَرَةُ، وَقَدْ فَعَلَهُ، قُلْنَا: إنَّهُ لَوْ لَمْ يُبِنْ مَا أَبَانَ مَا قَطَعَ يَدَهُ لَكِنْ ذَكَرَهُ تَهْوِيلًا وَتَخْوِيفًا وَتَعْظِيمًا لِأُبَّهَةِ الْإِمَامَةِ كَيْ لَا يُبَاسَطَ فَتَضْعُفَ حِشْمَتُهُ فِي الصُّدُورِ وَأَمَّا مُصَادَرَةُ خَالِدٍ وَعَمْرٍو فَلَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُصَادَرَةِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ أَعْلَمَ بِأَحْوَالِهِمْ وَكَانَ يَتَجَسَّسُ بِالنَّهَارِ وَيَتَعَسَّسُ بِاللَّيْلِ فَلَعَلَّهُ اطَّلَعَ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ سَوَّغَ لَهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ مُسَلَّمٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى مُصَادَرَةِ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَشُقُّ بُطُونَ أَصَابِعِ الصِّبْيَانِ فِي السَّرِقَةِ

لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ

وَأَنْتُمْ تَرَكْتُمْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةَ، قُلْنَا: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَظِنَّةِ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ الشَّقَّ الْيَسِيرَ قَرِيبٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي التَّخْوِيفِ، وَالصِّبْيَانُ يُضْرَبُونَ عَلَى السَّرِقَةِ فَنَحْنُ رَاعَيْنَا مَعْنًى أَظْهَرَ مِنْهُ فَلِذَلِكَ تَرَكْنَاهُ.

(قَوْلُهُ: قَدْ يَكُونُ بَرِيئًا) فَيَلْزَمُ ضَرْبُ بَرِيءٍ (قَوْلُهُ: وَتَرْكُ الضَّرْبِ إلَخْ) أَيْ اللَّازِمِ عَلَى عَدَمِ الضَّرْبِ، وَقَدْ كَانَ مُذْنِبًا فِي الْوَاقِعِ لَكِنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُضْرَبْ لَزِمَ ضَيَاعُ الْأَمْوَالِ (قَوْلُهُ: مَعَ مُنَادَاتِهِ عَلَيْهِ إلَخْ)

<<  <  ج: ص:  >  >>