للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ الْمَذْكُورِ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ نَحْوَ أَرَاك تُقَدِّمُ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى يُقَالُ لِلْمُتَرَدِّدِ فِي أَمْرٍ تَشْبِيهًا لَهُ بِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِإِقْدَامِهِ وَإِحْجَامِهِ فَالْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَالظَّرْفُ فِيهِ خَبَرٌ كَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ إنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ كُلَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى شَيْءٌ يَسِيرٌ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ شَاءَ كَمَا يُقَلِّبُ الْوَاحِدُ مِنْ عِبَادِهِ الْيَسِيرَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا فَلَا يَرُدُّ تَائِبًا كَمَا يَبْسُطُ الْوَاحِدُ مِنْ عِبَادِهِ يَدَهُ لِلْعَطَاءِ أَيْ لِلْأَخَذَةِ فَلَا يَرُدُّ مُعْطِيًا.

(الْقُرْآنُ) وَهُوَ (كَلَامُهُ) تَعَالَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ (غَيْرُ مَخْلُوقٍ) وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا (عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا الْمَجَازِ مَكْتُوبٌ فِي مَصَاحِفِنَا) بِأَشْكَالِ الْكِتَابَةِ وَصُوَرِ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ (مَحْفُوظٌ فِي صُدُورِنَا) بِأَلْفَاظِهِ الْمَخِيلَةِ (مَقْرُوءٌ بِأَلْسِنَتِنَا) بِحُرُوفِهِ الْمَلْفُوظَةِ الْمَسْمُوعَةِ فَقَوْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى كُلٍّ مِنْ مَكْتُوبٍ وَمَحْفُوظٍ وَمَقْرُوءٍ وَقُدِّمَ لِلْإِشَارَةِ إلَى ذَلِكَ وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ لَا الْمَجَازِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَقِيقَةِ كُنْهَ الشَّيْءِ كَمَا هُوَ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّ الْقُرْآنَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ لَيْسَ فِي الْمَصَاحِفِ وَلَا فِي الصُّدُورِ وَلَا فِي الْأَلْسِنَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا مُقَابِلُ الْمَجَازِ أَيْ يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْقُرْآنِ حَقِيقَةً أَنَّهُ مَكْتُوبٌ مَحْفُوظٌ مَقْرُوءٌ وَاتِّصَافُهُ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَيْ مَوْجُودٌ أَزَلًا وَأَبَدًا اتِّصَافٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ وُجُودَاتِ الْمَوْجُودِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وُجُودًا فِي الْخَارِجِ وَوُجُودًا فِي الذِّهْنِ وَوُجُودًا فِي الْعِبَارَةِ وَوُجُودًا فِي الْكِتَابَةِ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْعِبَارَةِ وَهِيَ عَلَى مَا فِي الذِّهْنِ وَهُوَ عَلَى مَا فِي الْخَارِجِ.

(يُثِيبُ) اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَةَ الْمُكَلَّفِينَ (عَلَى الطَّاعَةِ) فَضْلًا (وَيُعَاقِبُ) هُمْ (إلَّا أَنْ يَغْفِرَ غَيْرَ الشِّرْكِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ) عَدْلًا لِإِخْبَارِهِ بِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} [النازعات: ٣٧] {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات: ٣٨] {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: ٣٩] {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: ٤٠] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: ٤١] {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ٤٨]

ــ

[حاشية العطار]

يُؤَوِّلُ الْعُلَمَاءُ الْمُوهِمَ الْوَاقِعَ مِنْ الشَّارِعِ وَلَا يُؤَوِّلُونَ الْوَاقِعَ مِنْ الْوَلِيِّ مَعَ أَنَّ الْمَادَّةَ وَاحِدَةٌ فِي الْجُمْلَةِ فَقَالَ لَهُ لَوْ أَنْصَفُوا لَأَوَّلُوا الْوَاقِعَ مِنْ الْوَلِيِّ بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِضَعْفِهِ فِي أَحْوَالِ الْحَضْرَةِ بِخِلَافِ الشَّارِعِ فَإِنَّهُ ذُو مَقَامٍ مَكِينٍ.

(قَوْلُهُ: مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ) الْمَذْكُورُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ هُوَ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ مُنْتَزَعَةٍ مِنْ عِدَّةِ أُمُورٍ بِأُخْرَى قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَاعْلَمْ أَنَّ التَّمْثِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ إنَّمَا هُوَ فِي قَوْلٍ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ لَا فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِيثِ إذْ لَوْ قِيلَ إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ شَاءَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَمْثِيلٌ قَطْعًا اهـ.

وَلَك أَنْ تَقُولَ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّمْثِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمَجَازُ فِي جَمِيعِ مِفْرَادَتِهِ إذْ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْهَيْئَةُ الْمُنْتَزَعَةُ مِنْ عِدَّةِ أُمُورٍ لَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمُورِ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ. نَجَّارِيٌّ

(قَوْلُهُ: كَمَا يَبْسُطُ إلَخْ) قَدْ يُقَالُ الْمُنَاسَبَةُ كَمَا يَبْسُطُ الْوَاحِدُ مِنْ عُبَادَةَ يَدَهُ لِلْإِعْطَاءِ فَلَا يَرُدُّ مُسْتَعْطِيًا قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ الْأَبْلَغَ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ إذْ مَنْ بَسَطَ يَدَهُ لِلْأَخْذِ أَكْثَرُ مِمَّنْ بَسَطَ يَدَهُ لِلْإِعْطَاءِ.

(قَوْلُهُ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ) خَبَرُ الْقُرْآنِ وَقَوْلُهُ مَكْتُوبٌ خَبَرٌ ثَانٍ وَمَحْفُوظٌ خَبَرٌ ثَالِثٌ وَمَقْرُوءٌ خَبَرٌ رَابِعٌ وَعَدَّدَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْوُجُودَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لَهُ وُجُودَاتٌ أَرْبَعٌ (قَوْلُهُ: رَاجِعٌ إلَى كُلٍّ مِنْ مَكْتُوبٍ إلَخْ) أَيْ مُتَعَلِّقٌ بِكُلٍّ مِنْهَا مَعْنًى أَمَّا لَفْظًا فَبِالْأَوَّلِ فَقَطْ وَيُقَدَّرُ نَظِيرُهُ فِيمَا بَعْدَهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ إسْنَادَ كُلٍّ مِنْ مَكْتُوبٍ وَمَحْفُوظٍ وَمَقْرُوءٍ إلَى الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ إسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ وُجُودٍ مِنْ الْحَوَادِثِ الْأَرْبَعَةِ لَا إسْنَادٌ مَجَازِيٌّ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الِاتِّصَافَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي حَقِّ الصِّفَةِ الْقَدِيمَةِ مَجَازٌ قَطْعًا وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْوُجُودَاتِ الثَّلَاثَةِ غَيْرِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ بَيَانٌ لِلْعَلَاقَةِ الْمُصَحِّحَةِ لِلتَّجَوُّزِ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْكَسْتَلِيُّ وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ (قَوْلُهُ: لَيْسَ فِي الْمَصَاحِفِ) وَإِنَّمَا هُوَ قَائِمٌ بِالذَّاتِ الْعَلِيَّةِ (قَوْلُهُ: فَإِنَّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ إلَخْ) التَّحْقِيقُ أَنَّ الْوُجُودَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْوُجُودُ الْخَارِجِيُّ، وَأَمَّا الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ فَأَثْبَتَهُ الْحُكَمَاءُ وَنَفَاهُ الْمُتَكَلِّمُونَ.

قَوْلُهُ {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ٤٨] أَيْ مِنْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ مَعَ التَّوْبَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>