وَهَذَا الْأَخِيرُ مُخَصِّصٌ لِعُمُومَاتِ الْعِقَابِ.
(وَلَهُ) سُبْحَانَهُ (إثَابَةُ الْعَاصِي وَتَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَإِيلَامُ الدَّوَابِّ وَالْأَطْفَالِ) لِأَنَّهُمْ مِلْكُهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ لَكِنْ لَا يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ لِإِخْبَارِهِ بِإِثَابَةِ الْمُطِيعِ وَتَعْذِيبِ الْعَاصِي كَمَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَرِدْ إيلَامُ الدَّوَابِّ وَالْأَطْفَالِ فِي غَيْرِ قِصَاصٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ أَمَّا فِي الْقِصَاصِ «فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءَ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ «يُقْتَصُّ لِلْخَلْقِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى الْجَمَّاءِ مِنْ الْقَرْنَاءِ وَحَتَّى لِلذَّرَّةِ مِنْ الذَّرَّةِ وَقَالَ لَيَخْتَصِمَنَّ كُلُّ شَيْءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى الشَّاتَانِ فِيمَا انْتَطَحَتَا» رَوَاهُمَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي الْأَوَّلِ رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ وَفِي الثَّانِي إسْنَادُهُ حَسَنٌ وَقَضِيَّةُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ الْقِصَاصُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى التَّكْلِيفِ وَالتَّمْيِيزِ فَيُقْتَصُّ مِنْ الطِّفْلِ لِطِفْلٍ وَغَيْرِهِ
(وَيَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ) سُبْحَانَهُ (بِالظُّلْمِ) لِأَنَّهُ مَالِكُ الْأُمُورِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَلَا ظُلْمَ فِي التَّعْذِيبِ وَالْإِيلَامِ الْمَذْكُورَيْنِ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُمَا
(يَرَاهُ) سُبْحَانَهُ (الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَبَعْدَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الْمُوَافِقَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: ٢٢] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: ٢٣]
ــ
[حاشية العطار]
وَبِدُونِهَا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي تَخْصِيصِهِمْ ذَلِكَ بِالصَّغَائِرِ وَبِالْكَبَائِرِ الْمَقْرُونَةِ بِالتَّوْبَةِ وَفِي شَرْحِ الْجَلَالِ الدَّوَانِيِّ عَلَى الْعَقَائِدِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِأَنَّ الْكُفْرَ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ فَيَلْزَمُ تَسَاوِي مَا نُفِيَ عَنْهُ الْغُفْرَانُ وَمَا ثَبَتَ لَهُ (قَوْلُهُ: وَهَذَا الْأَخِيرُ) أَيْ النَّصُّ الْأَخِيرُ وَهُوَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (قَوْلُهُ: مُخَصِّصٌ لِعُمُومَاتِ الْعِقَابِ) أَيْ النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي عِقَابِ الذُّنُوبِ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً إلَّا أَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَمَنْ شَاءَ اللَّهُ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ لَمْ يُعَاقَبْ.
(قَوْلُهُ: لَكِنْ لَا يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ) أَيْ فِي الْآخِرَةِ وَإِلَّا فَإِيلَامُ الدَّوَابِّ وَالْأَطْفَالِ مُشَاهَدٌ فِي الدُّنْيَا
(قَوْلُهُ: وَيَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ تَعَالَى إلَخْ) الْمُرَادُ بِالْوَصْفِ الِاتِّصَافُ أَيْ يَسْتَحِيلُ اتِّصَافُهُ تَعَالَى بِالظُّلْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الظُّلْمَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْكُلَّ مِلْكُهُ فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَحْكُمُ الْحَاكِمِينَ وَأَعْلَمُ الْعَالِمِينَ وَأَقْدَرُ الْقَادِرِينَ فَكُلُّ مَا وَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ يَكُونُ ذَلِكَ أَحْسَنَ الْمَوَاضِعِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَإِنْ خَفِيَ وَجْهُ حُسْنِهِ عَلَيْنَا (قَوْلُهُ: لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُمَا إلَخْ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَلَهُ إثَابَةُ الْعَاصِي إلَخْ مِنْ الْجَائِزِ الْعَقْلِيِّ
(قَوْلُهُ: يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ) أَيْ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَإِنْ كَانَ فِي الْآخِرَيْنِ خِلَافٌ بَلْ فِي النِّسَاءِ أَيْضًا وَهَلْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ فَقَطْ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ أَوْ بِالْوَجْهِ لِظَاهِرِ آيَةِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: ٢٢] أَوْ الذَّاتِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّاذِلِيُّ لَمَّا كُفَّ بَصَرُهُ انْعَكَسَ بَصَرِي لِبَصِيرَتِي فَصِرْت أُبْصِرُ بِكُلِّي كُلَّ مُحْتَمَلٍ وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ قِيلَ وَلَا مَانِعَ مِنْ اخْتِلَافِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ نَوْعٌ مِنْ الْإِدْرَاكِ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى مَتَى شَاءَ وَلِأَيِّ شَيْءٍ شَاءَ وَمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ تَوَقُّفِهَا عَلَى الْمُقَابَلَةِ وَالْجِهَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أُمُورٌ عَادِيَّةٌ يَجُوزُ تَخَلُّفُهَا وَدَعْوَاهُمْ الضَّرُورَةَ فِي ذَلِكَ مَمْنُوعَةٌ بِمُنَازَعَةِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنْ الْعُقَلَاءِ وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ فَلَا يَسْلَمُ فِي الْغَائِبِ لِأَنَّ الرُّؤْيَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَانِ إمَّا بِالْمَاهِيَّةِ أَوْ بِالْهُوِيَّةِ لَا مَحَالَةَ فَيَجُوزُ اخْتِلَافُهُمَا فِي الشُّرُوطِ وَاللَّوَازِمِ.
وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ بِلَا كَيْفٍ ثُمَّ إنَّ وُقُوعَ الرُّؤْيَةِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَقَدْ احْتَجَّ عَلَيْهَا أَهْلُ السُّنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالنَّصِّ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute