وَالْمُخَصِّصَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: ١٠٣] أَيْ لَا تَرَاهُ.
مِنْهَا
ــ
[حاشية العطار]
قَبْلَ حُدُوثِ الْمُخَالِفِ عَلَى وُقُوعِهَا وَكَوْنِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا حَتَّى إنَّهُ رَوَى حَدِيثَ الرُّؤْيَةِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ شَارِحُ الْمَقَاصِدِ وَلِهَذَا احْتَجَّ الشَّارِحُ عَلَيْهَا بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ قَوْلُهُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: ٢٢] إلَخْ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ النَّظَرَ الْمَوْصُولَ بِإِلَى إمَّا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ أَوْ مَلْزُومٌ لَهَا بِشَهَادَةِ النَّقْلِ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالتَّتَبُّعِ لِمَوَارِدِ اسْتِعْمَالِهِ وَإِمَّا مَجَازٌ عَنْهَا لِكَوْنِهِ عِبَارَةً عَنْ تَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ طَلَبًا لِرُؤْيَتِهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ هُنَا الْحَقِيقَةُ لِامْتِنَاعِ الْمُقَابَلَةِ وَالْجِهَةِ فَتَعَيَّنَ الرُّؤْيَةُ لِكَوْنِهَا أَقْرَبَ الْمَجَازَاتِ بِحَيْثُ الْتَحَقَ بِالْحَقَائِقِ بِشَهَادَةِ الْعُرْفِ وَالتَّقْدِيمِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ دُونَ الْحَصْرِ أَوْ لِلْحَصْرِ ادِّعَاءً.
بِمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لِاسْتِغْرَاقِهِمْ فِي مُشَاهَدَةِ جَمَالِهِ قَصَرُوا النَّظَرَ عَلَى عَظَمَةِ جَلَالِهِ كَأَنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إلَى مَا سِوَاهُ وَلَا يَرَوْنَ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّ إلَى هُنَا لَيْسَتْ حَرْفًا بَلْ اسْمًا بِمَعْنَى النِّعْمَةِ وَاحِدُ الْآلَاءِ وَنَاظِرَةٌ مِنْ النَّظَرِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: ١٣] وَلَوْ سُلِّمَ فَالنَّظَرُ الْمَوْصُولُ بِإِلَى قَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وُجُوهٌ نَاظِرَاتٌ يَوْمَ بَدْرٍ ... إلَى الرَّحْمَنِ يَأْتِي بِالْفَلَاحِ
وَقَوْلِهِ:
كُلُّ الْخَلَائِقِ يَنْظُرُونَ سِجَالَهُ ... نَظَرَ الْحَجِيجِ إلَى طُلُوعِ هِلَالِ
وَأُجِيبَ بِأَنَّ سَوْقَ الْآيَةِ لِبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيَانِ أَنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي غَايَةِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَالْإِخْبَارُ بِانْتِظَارِهِمْ النِّعْمَةَ وَالثَّوَابَ لَا يُلَائِمُ ذَلِكَ بَلْ رُبَّمَا يُنَافِيهِ لِأَنَّ الِانْتِظَارَ مَوْتٌ أَحْمَرُ فَهُوَ بِالْغَمِّ وَالْحُزْنِ وَالْقَلَقِ وَضِيقِ الصَّدْرِ أَجْدَرُ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْقَطْعِ بِالْحُصُولِ عَلَى أَنَّ كَوْنَ إلَى اسْمًا بِمَعْنَى النِّعْمَةِ لَوْ ثَبَتَ فِي اللُّغَةِ فَلَا خَفَاءَ فِي بُعْدِهِ وَغَرَابَتِهِ وَإِخْلَالِهِ بِالْفَهْمِ عِنْدَ تَعَلُّقِ النَّظَرِ بِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَحْمِلْ الْآيَةَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بَلْ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ وَكَوْنِ النَّظَرِ الْمَوْصُولِ بِإِلَى سِيَّمَا الْمُسْنَدَ إلَى الْوَجْهِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ الثِّقَاتِ وَلَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ الْأَبْيَاتُ لِجَوَازِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ بِتَأْوِيلَاتٍ لَا تَخْفَى وَقَوْلُ ابْنِ الْفَارِضِ:
عِدِينِي بِوَصْلٍ وَامْطُلِي بِنِجَازِهِ ... فَعِنْدِي إذَا صَحَّ الْهَوَى حَسُنَ الْمَطْلُ
فَذَاكَ مَذَاقٌ آخَرُ وَعَلَيْهِ يَتَخَرَّجُ قَوْلِي:
وَإِنِّي لِمَا تَهْوَى مُطِيعٌ وَسَامِعٌ ... وَلَوْ كَانَ فِيهِ الْحَتْفُ يَا بَدْرُ فَأْمُرْنِي
وَمَا كَانَ تَأْخِيرِي لِعُذْرٍ وَإِنَّمَا ... أَلَذُّ بِتَكْرَارِ الْحَدِيثِ عَلَى أُذْنِي
إلَّا أَنَّ الْمَطْلَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْشُوقِ وَهُنَا مِنْ جِهَةِ الْعَاشِقِ وَالْهَوَى شُجُونٌ وَالْجُنُونُ فُنُونٌ.
(قَوْلُهُ: وَالْمُخَصِّصَةِ لِقَوْلِهِ إلَخْ) هَذَا أَحَدُ أَجْوِبَةٍ عَنْ تَمَسُّكِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي امْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ قَالُوا الْإِدْرَاكُ بِالْبَصَرِ هُوَ الرُّؤْيَةُ وَالْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ الْعَهْدِ، وَالْبَعْضِيَّةُ لِلْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فَاَللَّهُ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَإِلَّا لَزِمَ تَخَلُّفُ الْخَبَرِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِدْرَاكَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ وَعَلَى أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ لِلْعُمُومِ فَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْإِدْرَاكِ الرُّؤْيَةُ عَلَى وَجْهِ الْإِحَاطَةِ أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إبْصَارُ الْكُفَّارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: ١٥] فَلَا حَاجَةَ إلَى دَعْوَى التَّخْصِيصِ قَالُوا أَيْضًا إنَّ نَفْيَ إدْرَاكِهِ بِالْبَصَرِ وَارِدٌ مَوْرِدَ التَّمَدُّحِ مُدْرَجٌ فِي أَثْنَاءِ الْمَدْحِ فَيَكُونُ نَقِيضُهُ وَهُوَ الْإِدْرَاكُ بِالْبَصَرِ نَقْصًا وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَيَدُلُّ هَذَا الْوَجْهُ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ عُمُومُ الْإِبْصَارِ وَكَوْنُ الْكَلَامِ لِعُمُومِ السَّلْبِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ عُمُومَهُ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ فَيُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَمَا يُقَالُ إنَّهُ تَمَدُّحٌ وَمَا بِهِ التَّمَدُّحُ يَدُومُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَا يَزُولُ يُجَابُ عَنْهُ