حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» إلَخْ وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَقَوْلُهُ تُضَارُّونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَالرَّاءُ مُشَدَّدَةٌ مِنْ الضِّرَارِ وَمُخَفَّفَةٌ مِنْ الضَّيْرِ أَيْ الضَّرَرِ أَيْ هَلْ يَحْصُلُ لَكُمْ فِي ذَلِكَ مَا يُشَوِّشُ عَلَيْكُمْ الرُّؤْيَةَ بِحَيْثُ تَشُكُّونَ فِيهَا كَمَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَحَدِيثُ صُهَيْبٍ فِي مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَى رَبِّهِمْ تَعَالَى» وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: ٢٦] أَيْ فَالْحُسْنَى الْجَنَّةُ وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إلَيْهِ تَعَالَى وَيَحْصُلُ بِأَنْ يَنْكَشِفَ انْكِشَافًا تَامًّا مَيَّزَهَا عَنْ الْمُقَابَلَةِ وَالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ أَمَّا الْكُفَّارُ فَلَا يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
ــ
[حاشية العطار]
بِأَنَّ امْتِنَاعَ الزَّوَالِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى الْأَفْعَالِ فَقَدْ يَزُولُ لِحُدُوثِهَا وَالرُّؤْيَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَقَدْ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَيْنِ وَقَدْ لَا يَخْلُقُ ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ عُمُومُ الْأَوْقَاتِ فَغَايَتُهُ الظُّهُورُ وَالرُّجْحَانُ وَمِثْلُهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْعَمَلِيَّاتِ دُونَ الْعِلْمِيَّاتِ.
قَالَ الْجَلَالُ الدَّوَانِيُّ وَمَا قِيلَ مِنْ التَّمَدُّحِ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ لَنَا لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَتْ الرُّؤْيَةُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَمَدُّحٌ إنَّمَا التَّمَدُّحُ لِلْمُمْتَنِعِ الْمُتَعَزِّزِ بِحِجَابِ الْكِبْرِيَاءِ مَعَ إمْكَانِ رُؤْيَتِهِ وَلِأَنَّ عَدَمَ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا مَعَ كَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَيْهِمْ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ كَافٍ فِي التَّمَدُّحِ اهـ.
قَالَ سَيِّدِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ لَا غَرَابَةَ فِي رُؤْيَتِهِ تَعَالَى بِالْبَصَرِ مَعَ أَنَّهُ يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ مُنَزَّهًا فَكَذَا بِالْبَصَرِ إذْ كِلَاهُمَا مَخْلُوقٌ قَالَ وَفِي الْحَقِيقَةِ الرُّؤْيَةُ هِيَ الْمَعْرِفَةُ فِي الدُّنْيَا كَمُلَتْ فَتَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِهَا وَجَعَلَهُ إشَارَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: ٨] كَمَا أَنَّ ظُلْمَةَ الْجَهْلِ إذْ ذَاكَ تَكُونُ حِجَابًا (قَوْلُهُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ) هَذَا الْحَدِيثُ مُثْبِتٌ لِلرُّؤْيَةِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا سَيَقُولُ الشَّارِحُ وَيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهَا بَعْدَ الدُّخُولِ حَدِيثُ صُهَيْبٍ الْآتِي (قَوْلُهُ: لَيْلَةَ الْبَدْرِ) هِيَ لَيْلَةُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْهِلَالُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ وَمَا عَدَا ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ قَمَرٌ (قَوْلُهُ: لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ) لَعَلَّ السِّرَّ فِي ذِكْرِ هَذَا فِي الشَّمْسِ دُونَ الْقَمَرِ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْقَمَرِ مَا يُفِيدُهُ ظَاهِرًا وَهُوَ قَوْلُهُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ إذْ إضَافَةُ اللَّيْلَةِ إلَى الْبَدْرِ تُلَوِّحُ بِأَنَّ نُورَهُ مُمْتَدٌّ إلَى آخِرِهَا وَلَا يَكُونُ إلَّا بِدُونِ سَحَابٍ اهـ. زَكَرِيَّا.
(قَوْلُهُ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ) أَيْ عَنْهُمْ فَهُمْ الْمَحْجُوبُونَ وَلَا حِجَابَ لَهُ تَعَالَى إذْ الْحِجَابُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَجْرَامِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَأْلِيفٍ لَهُ لَطِيفٍ أَلَّفَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّ اللَّهِ: إنَّ حِجَابَهُ النُّورُ وَفِي آخَرَ: إنَّ حِجَابَهُ النَّارُ: إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَمْعَنَ النَّظَرَ مِنْ النُّورِ كَنُورِ الشَّمْسِ أَوْ الْبَرْقِ مَثَلًا أَوْ النَّارِ وَدَقَّقَ فِي ذَلِكَ لَا يَزْدَادُ يَقِينًا فِي إدْرَاكِ النُّورِ وَلَا يَصِلُ إلَى كُنْهِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَرُبَّمَا كَلَّ بَصَرُهُ أَوْ تَضَرَّرَ وَلَا يَنَالُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يُدْرِكْ الْإِنْسَانُ هَذَا الْحَادِثَ الْكَائِنَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ جِنْسِهِ فَكَيْفَ يُدْرِكُ مَنْ لَا يَطْمَعُ فِيهِ مَنَالٌ وَلَا لَهُ فِي خَلْقِهِ مِثَالٌ فَقَوْلُهُ حِجَابُهُ النُّورُ أَوْ النَّارُ مَعْنَاهُ أَنَّ حِجَابَ طَمَعِنَا فِي الْإِدْرَاكِ وَقَاطِعَ أَمَلِنَا مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ إدْرَاكِنَا لِلنُّورِ وَنَحْوِهِ فَصَارَ النُّورُ حِجَابًا لِلَّهِ مِنْ وُصُولِ الْأَطْمَاعِ إلَيْهِ حِجَابَ قِيَاسٍ أُخْرَوِيٍّ إذْ مَنْ لَا يَدْرِ إلَّا الْحَادِثَ يَيْأَسْ مِنْ الْقَدِيمِ اهـ.
(قَوْلُهُ: فَالْحُسْنَى الْجَنَّةُ إلَخْ) هُوَ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَبَعْضُهُمْ فَسَّرَ الْحُسْنَى بِالْجَزَاءِ الْمُسْتَحَقِّ وَالزِّيَادَةَ بِالْفَضْلِ فَإِنْ قِيلَ الرُّؤْيَةُ أَصْلُ الْكَرَامَاتِ وَأَعْظَمُهَا فَكَيْفَ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالزِّيَادَةِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهَا أَجَلُّ مِنْ أَنْ تُعَدَّ فِي الْحُسْنَيَاتِ وَفِي أَجْزِيَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
(قَوْلُهُ: بِأَنْ يَنْكَشِفَ انْكِشَافًا تَامًّا) قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي فَتَاوِيهِ الرَّبُّ تَعَالَى يُرَى بِالنُّورِ الَّذِي خَلَقَهُ فِي الْأَعْيُنِ زَائِدًا عَلَى نُورِ الْعَيْنِ فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ تَكْشِفُ مَا لَا يَكْشِفُهُ الْعِلْمُ وَلَوْ أَرَادَ الرَّبُّ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَ فِي الْقَلْبِ نُورًا كَنُورِ الْأَعْيُنِ لَمَا أَعْجَزَهُ ذَلِكَ بَلْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ نُورَ الْأَعْيُنِ فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ لَأَمْكَنَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ تَامًّا أَيْ بِقَدْرِ مَا يَصِلُ إلَيْهِ إدْرَاكُ الْعَبْدِ لَا بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ اهـ. زَكَرِيَّا.
(قَوْلُهُ: مُنَزَّهًا عَنْ الْمُقَابَلَةِ وَالْجِهَةِ) وَأَنْشَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي