أَيْ بِمَا عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْإِذْعَانَ وَالْقَبُولَ لَهُ وَالتَّكْلِيفَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ دُونَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِالتَّكْلِيفِ بِأَسْبَابِهِ كَإِلْقَاءِ الذِّهْنِ وَصَرْفِ النَّظَرِ وَتَوْجِيهِ الْحَوَاسِّ وَرَفْعِ الْمَوَانِعِ (وَلَا يُعْتَبَرُ) التَّصْدِيقُ الْمَذْكُورُ فِي الْخُرُوجِ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِالْإِيمَانِ (إلَّا مَعَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مِنْ الْقَادِرِ) عَلَيْهِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ عَلَامَةً لَنَا عَلَى التَّصْدِيقِ الْخَفِيِّ عَنَّا حَتَّى يَكُونَ الْمُنَافِقُ مُؤْمِنًا فِيمَا بَيْنَنَا كَافِرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: ١٤٥] (وَهَلْ التَّلَفُّظُ) الْمَذْكُورُ (شَرْطٌ) لِلْإِيمَانِ (أَوْ شَطْرٌ) مِنْهُ (فِيهِ تَرَدُّدٌ) لِلْعُلَمَاءِ.
(وَالْإِسْلَامُ إعْمَالُ الْجَوَارِحِ) مِنْ الطَّاعَاتِ كَالتَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ
ــ
[حاشية العطار]
أَنَّ الْمَنْفِيَّ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ الْمُصَاحِبُ لِلْمُرَاقَبَةِ إذْ لَوْلَا حِجَابُ الْغَفْلَةِ مَا عَصَى أَوْ أَنَّهُ إنْ اسْتَحَلَّهُ فَإِنَّهُ يَرْتَدُّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَيَرْتَفِعُ إيمَانُهُ وَمَا يُقَالُ إنَّهُ يُرْفَعُ ثُمَّ يَرْجِعُ لَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ مَاتَ مُتَلَبِّسًا بِالْمَعْصِيَةِ يَمُوتُ كَافِرًا وَلَا قَائِلَ بِهِ (قَوْلُهُ: أَيْ بِمَا عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ بِهِ) يُشْكِلُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِأَبِي لَهَبٍ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ جَاءَ الْوَحْيُ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَإِنَّهُ مُكَلَّفٌ قَطْعًا بِتَصْدِيقِهِ فِي خَبَرِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ خَبَرِهِ عَدَمُ إيمَانِهِ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ تَصْدِيقُهُ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مُصَدِّقٍ فَإِنَّ إذْعَانَ الشَّخْصِ بِأَمْرٍ عَلِمَ فِي بَاطِنِهِ خِلَافَ ذَلِكَ الْأَمْرِ مُحَالٌ فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِالْمُمْتَنِعِ الذَّاتِيِّ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى مَنْعِهِ وَأَيْضًا إيمَانُهُ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ عَيْنُ الْكُفْرِ فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِالْكُفْرِ وَهُوَ إشْكَالٌ صَعْبٌ شَهِيرٌ.
وَأَجَابَ السَّيِّدُ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْإِيمَانَ الْإِجْمَالِيَّ فِي حَقِّهِ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْمُحَالِ وَإِنَّمَا الْمُحَالُ هُوَ التَّفْصِيلِيُّ وَوُجُوبُهُ مَشْرُوطٌ بِالْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ فَالتَّصْدِيقُ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْمُحَالِ إنَّمَا يُكَلَّفُ بِهِ إذَا عَلِمَهُ وَوَصَلَ إلَيْهِ بِخُصُوصِهِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِخْبَارُهُ لِلرَّسُولِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنُوحٍ {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: ٣٦] اهـ.
قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ إنَّمَا يَدْفَعُ الشُّبْهَةَ عَنْ الْوُقُوعِ لَا عَنْ الْجَوَازِ لِأَنَّ وُصُولَ ذَلِكَ الْإِخْبَارِ إلَيْهِ مُمْكِنٌ وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الْمُمْكِنِ مُمْكِنٌ اهـ.
قَالَ الْخَيَالِيُّ وَقَدْ يُجَابُ أَيْضًا بِأَنَّهُ يَجُوزُ بِأَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ فِي حَقِّهِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِمَا عَدَاهُ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ إذْ فِيهِ اخْتِلَافٌ فِي الْإِيمَانِ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ اهـ. أَيْ وَالْإِيمَانُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَافُهَا بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ وَأَيْضًا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ بَعْضَ تَكْذِيبِ الْوَحْيِ لَيْسَ بِكُفْرٍ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْإِيمَانِ بِدُونِهِ كَيْفَ وَكُلُّ تَكْذِيبٍ لَهُ فَهُوَ كُفْرٌ غَيْرُ مُبَاحٍ وَأَنَّ عُمُومَ تَصْدِيقِهِ وَاجِبٌ قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ وَقَدْ يُجَابُ أَيْضًا بِأَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ مَا عُلِمَ مَجِيئُهُ بِهِ وَمَعْنَى لَا يُؤْمِنُ بِهِ رَفْعُ الْإِيجَابِ الْكُلِّيِّ فَلَا يُنَافِيهِ التَّصْدِيقُ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ تَأَمَّلْ اهـ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْإِشْكَالُ صَعْبٌ (قَوْلُهُ: وَالتَّكْلِيفُ إلَخْ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ بِالتَّكْلِيفِ بِأَسْبَابِهِ وَهَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ التَّصْدِيقَ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ وَلَا تَكْلِيفَ إلَّا بِمَا هُوَ مِنْ مَقُولَةِ الْفِعْلِ وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ التَّكْلِيفَ إنَّمَا هُوَ بِتَحْصِيلِ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ وَذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ إلَخْ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعْدَ تَفْسِيرِ التَّصْدِيقِ بِالْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ يَكُونُ مِنْ قَوْلِهِ الِانْفِعَالُ إنْ فُسِّرَ الْإِذْعَانُ وَالْقَبُولُ بِتَأْثِيرِ النَّفْسِ بِذَلِكَ فَإِنْ فُسِّرَ بِرَبْطِ الْقَلْبِ عَلَى مَا عُلِمَ مَجِيءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَا مِنْ مَقُولَةِ الْفِعْلِ وَحِينَئِذٍ لَا وُرُودَ لِلسُّؤَالِ وَلَا احْتِيَاجَ لِلْجَوَابِ (قَوْلُهُ: وَلَا يُعْتَبَرُ إلَّا مَعَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ) هَذَا الْكَلَامُ مَحَلُّهُ فِي كَافِرٍ أَصْلِيٍّ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَّا أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ مُؤْمِنُونَ قَطْعًا وَلَا يَجْرِي فِيهِمْ هَذَا الْخِلَافُ فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَلَوْ لَمْ يَنْطِقُوا حَيْثُ: لَا إبَاءَ (قَوْلُهُ: النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ) قَالَ بَعْضُ أَشْيَاخِنَا مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إنَّ الْمَدَارَ عِنْدَهُمْ عَلَى أَيِّ لَفْظٍ وَجَرَى عَلَيْهِ الْأَبِيُّ مُخَالِفًا لِشَيْخِهِ ابْنِ عَرَفَةَ الْمُشْتَرِطِ اللَّفْظَ الْمَخْصُوصَ وَهُوَ مُوَافِقٌ لَنَا فِي ذَلِكَ (قَوْلُهُ: شَرْطٌ لِلْإِيمَانِ) هُوَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ لِدَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْإِيمَانِ هُوَ الْقَلْبُ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ لِلِّسَانِ دَاخِلًا فِيهِ.
(قَوْلُهُ: إعْمَالُ الْجَوَارِحِ) مَصْدَرُ أَعْمَلَ وَالْعَمَلُ هُوَ الْفِعْلُ عَنْ رُؤْيَةٍ فَمِنْ ثَمَّ