للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلْخَلْقِ بِأَنْ يُحْيِيَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ فَنَائِهِمْ وَيَجْمَعَهُمْ لِلْعَرْضِ وَالْحِسَابِ

(وَالصِّرَاطَ) وَهُوَ جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ وَأَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ يَمُرُّ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ فَتَجُوزُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَتَزِلُّ بِهِ أَقْدَامُ أَهْلِ النَّارِ

(وَالْمِيزَانَ) وَلَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ يُعْرَفُ بِهِ مَقَادِيرُ الْأَعْمَالِ بِأَنْ تُوزَنَ صُحُفُهَا بِهِ (حَقٌّ) لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: ٤٧] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: ٤٧] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ وَمَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَقَالَ إنَّ الْعَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ

ــ

[حاشية العطار]

النَّفْسِ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ وَتَأَلُّمَهَا بِاللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ الْعَقْلِيَّةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِاعْتِقَادِهِ وَلَا يَكْفُرُ مُنْكِرُهُ وَلَا مَنْعَ عَقْلِيًّا وَلَا شَرْعِيًّا مِنْ إثْبَاتِهِ.

قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ وَالْجُسْمَانِيِّ مَعًا فَقَدْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالشَّرِيعَةِ فَقَالُوا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَنَّ سَعَادَةَ الْأَرْوَاحِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ وَأَنَّ سَعَادَةَ الْأَجْسَامِ فِي إدْرَاكِ الْمَحْسُوسَاتِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ السَّعَادَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَعَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي تَجَلِّي أَنْوَارِ عَالَمِ الْقُدْسِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى شَيْءٍ مِنْ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَمَعَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي اسْتِيفَاءِ هَذِهِ اللَّذَّاتِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ هَذَا الْجَمْعُ لِكَوْنِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ ضَعِيفَةً فِي هَذَا الْعَالَمِ فَإِذَا فَارَقَتْهُ بِالْمَوْتِ وَاسْتَمَدَّتْ مِنْ عَالَمِ الْقُدْسِ قَوِيَتْ وَكَمُلَتْ فَإِذَا أُعِيدَتْ إلَى الْأَبَدَانِ مَرَّةً ثَانِيَةً كَانَتْ قَوِيَّةً قَادِرَةً عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ هِيَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى مِنْ مَرَاتِبِ السَّعَادَاتِ انْتَهَى

(قَوْلُهُ: وَالصِّرَاطُ) بِالصَّادِ وَبِالسِّينِ، وَفِي وُجُودِهِ الْآنَ أَوْ أَنَّهُ سَيُوجَدُ تَرَدُّدٌ.

(قَوْلُهُ: وَهُوَ جِسْرٌ مَمْدُودٌ) أَفَادَ الشَّعْرَانِيُّ أَنَّهُ لَا يُوَصِّلُ إلَى الْجَنَّةِ حَقِيقَةً بَلْ لِمَرْجِهَا الَّذِي فِيهِ الدَّرَجُ الْمُوَصِّلُ لَهَا حَيْثُ الْحَوْضُ. قَالَ وَيُوضَعُ لَهُمْ هُنَاكَ مَأْدُبَةٌ أَيْ وَلِيمَةٌ وَيَقُومُ أَحَدُهُمْ فَيَتَنَاوَلُ مِمَّا تَدَلَّى هُنَاكَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ (قَوْلُهُ: أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ إلَخْ) نَازَعَ فِيهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ يُؤَوَّلُ بِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْمَشَقَّةِ

(قَوْلُهُ: وَالْمِيزَانُ) قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ كِفَّةُ الْحَسَنَاتِ نُورٌ وَكِفَّةُ السَّيِّئَاتِ ظُلْمَةٌ وَقِيلَ: الْوَزْنُ فِي الْآخِرَةِ عَكْسُ الْوَزْنِ فِي الدُّنْيَا فَيَصْعَدُ الرَّاجِحُ وَهُوَ غَرِيبٌ قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي التَّنْقِيحِ وَهُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ وَجَمَعَهُ فِي الْآيَةِ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ نَظَرًا لِأَفْرَادِ الْمُكَلَّفِينَ قَالَهُ الشَّيْخُ خَالِدٌ وَهَلْ مَوْجُودٌ الْآنَ أَوْ سَيُوجَدُ فِيهِ تَرَدُّدٌ وَنِعْمَ مَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ لَيْسَ عَلَيْنَا الْبَحْثُ عَنْ كَيْفِيَّتِهِ بَلْ نُؤْمِنُ بِهِ وَنُفَوِّضُ كَيْفِيَّتَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ الْإِيمَانُ بِالْمِيزَانِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ قِوَامُ النَّفْسِ بِجَوْهَرِهَا وَاسْتِغْنَائِهَا عَنْ الْجَسَدِ فَهِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لَأَنْ تَنْكَشِفَ لَهَا حَقَائِقُ الْأُمُورِ وَتَعَلُّقُهَا بِالْبَدَنِ كَالْحِجَابِ لَهَا عَنْ إدْرَاكِ الْحَقَائِقِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ يَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ وَتَنْجَلِي حَقَائِقُ الْأُمُورِ قَالَ تَعَالَى {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: ٢٢] اهـ.

(قَوْلُهُ: يُعْرَفُ بِهِ أَيْ) إلْزَامًا لِلْحُجَّةِ لِلْخَلْقِ وَإِظْهَارًا لِلْعَدْلِ إذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ (قَوْلُهُ بِأَنْ تُوزَنَ) وَقِيلَ: تُصَوَّرُ أَعْمَالُ الْمُطِيعِينَ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ وَأَعْمَالُ الْعَاصِينَ فِي صُورَةٍ قَبِيحَةٍ ثُمَّ تُوزَنُ وَفِي مُخْتَصَرِ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ لِلْعَارِفِ الشَّعْرَانِيِّ أَنَّهُ يُجْعَلُ فِي الْمَوَازِينِ كُتُبُ الْأَعْمَالِ وَآخِرُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ قَوْلُ الْعَبْدِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكِفَّةُ مِيزَانِ كُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ عَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَكُلُّ ذِكْرٍ وَعَمَلٍ يَدْخُلُ الْمِيزَانَ إلَّا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ عَمَلِ خَيْرٍ لَهُ مُقَابِلٌ مِنْ ضِدِّهِ لِيُجْعَلَ هَذَا الْخَيْرُ فِي مُوَازَنَتِهِ وَلَا تُقَابَلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إلَّا الشِّرْكُ وَلَا يَجْتَمِعُ تَوْحِيدٌ وَشِرْكٌ فِي مِيزَانٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُعْتَقِدًا لَهَا فَمَا أَشْرَكَ وَإِنْ أَشْرَكَ فَمَا اعْتَقَدَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ لِكَلِمَةِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَا يُعَادِلُهَا فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى وَلَا يَرْجَحُهَا شَيْءٌ فَلِهَذَا لَا تَدْخُلُ الْمِيزَانَ ثُمَّ قَالَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَوَازِينَ إلَّا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ فَلَا تَدْخُلُ الْمِيزَانَ الْمَحْسُوسَ لَكِنْ يُقَامُ فِيهَا الْعَدْلُ وَهُوَ الْمِيزَانُ الْحُكْمِيُّ الْمَعْنَوِيُّ فَمَحْسُوسٌ لِمَحْسُوسٍ وَمَعْنًى لِمَعْنًى يُقَابَلُ كُلُّ شَيْءٍ بِمِثْلِهِ وَلِهَذَا تُوزَنُ الْأَعْمَالُ

<<  <  ج: ص:  >  >>