وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ، وَهَذَا وَجْهٌ ثَالِثٌ.
هَذَا كُلُّهُ فِي الْمَبِيعِ، فَأَمَّا ثَمَنُهُ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا جَازَ التَّصَرُّفُ قَبْلَ قَبْضِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ لَا، وَصَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَإِنْ كَانَ مُبْهَمًا لَمْ يَجُزْ إلَّا بَعْدَ تَمْيِيزِهِ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا جَازَ أَنْ يُعَاوِضَ عَنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ.
ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَلَمْ يُخَرِّجَا الْمُعَاوَضَةَ عَلَى الْخِلَافِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ حَكَيَا فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ وَالْأَكْثَرُونَ أَدْخَلُوهُ فِي جُمْلَةِ صُوَرِ الْخِلَافِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ اقْتِضَاءِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنْ الْآخَرِ بِالْقِيمَةِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَابْنِ مَنْصُورٍ وَحَنْبَلٍ.
وَنَقَلَ عَنْهُ الْقَاضِي البرتي فِي طَعَامٍ فِي الذِّمَّةِ هَلْ يَشْتَرِي بِهِ شَيْئًا مِمَّنْ عَلَيْهِ فَتَوَقَّفَ قَالَ فَقُلْت [لَهُ] لِمَ لَا يَكُونُ مِثْلَ هَذَا اقْتِضَاءُ الْوَرِقِ مِنْ الذَّهَبِ فَكَأَنَّهُ أَجَازَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَضِّحَهُ إيضَاحًا بَيِّنًا، وَهَذَا يُشْعِرُ أَنَّ اقْتِضَاءَ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنْ الْآخَرِ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَالْخِلَافُ فِي الْمُعَاوَضَةِ عَنْهُمَا بِغَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الصَّرْفِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّقْدَيْنِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَعْنَى أُجْرِيَا مَجْرَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَأَخْذُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ بَلْ هُوَ نَوْعُ اسْتِيفَاءٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَيْسَ هُوَ بِبَيْعٍ وَإِنَّمَا هُوَ اقْتِضَاءٌ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِالسِّعْرِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ اُعْتُبِرَتْ فِي الْقِيمَةِ، وَهَذَا الْمَأْخَذُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي.
وَمِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ جَعَلَ مَأْخَذَهُ النَّهْيَ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَأَمَّا الْقَاضِي فَأَجَازَ الْمُعَاوَضَةَ عَنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ بِمَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ وَتَأَوَّلَ كَلَامَ أَحْمَدَ بِكَلَامٍ بَعِيدٍ جِدًّا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ طَرِيقَةَ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ فِي الْإِجَارَةِ، أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ إذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لِأَجْنَبِيٍّ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَفِي بَيْعِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ رِوَايَتَانِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ مُبْهَمٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ وَعِوَضِهِ فَأَمَّا غَيْرُ الْمَبِيعِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَهِيَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُخْشَى انْفِسَاخُ الْعَقْدِ بِتَلَفِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ مِثْلُ الْأُجْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَالْعِوَضُ فِي الصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ وَنَحْوِهِمَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ فِيمَا سَبَقَ.
وَأَمَّا التَّصَرُّفُ فِي الْمَنَافِعِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فَإِنْ كَانَ بِإِعَارَةٍ وَنَحْوَهَا فَيَجُوزُ لِأَنَّ لَهُ اسْتِيفَاءَ الْعِوَضِ بِنَفْسِهِ وَمِمَّنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَإِنْ كَانَ بِإِجَارَةٍ صَحَّ أَيْضًا بَعْدَ قَبْضِ الْعَيْنِ وَلَمْ يَصِحَّ قَبْلَهَا إلَّا لِلْمُؤَجِّرِ عَلَى وَجْهٍ سَبَقَ.
وَيَصِحُّ إيجَارُهَا بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ وَبِأَزْيَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي الْأُخْرَى يُمْنَعُ بِزِيَادَةٍ لِدُخُولِهِ فِي رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي وَجْهٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ عَطَّلَهَا حَتَّى فَاتَتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءٍ تَلِفَتْ مِنْ ضَمَانِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute