وأول ما قدمته المدائح النبوية في هذا الباب تجسيد القدوة المثلى برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان المثل الأعلى في مناحي الحياة كلها، والذي لا يمكن اللحاق به، ولكن الاقتداء به يجعل المرء مستقيما في حياته، سعيدا متعاونا مع أقرانه، راضيا لثقته بأنه يتبع سنة خير الخلق التي تضمن له رضا الله تعالى ومغفرته. وإذا اقتدى أفراد المجتمع برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن المجتمع سيكون مجتمعا خيّرا قويا متماسكا، يسوده العدل والرحمة والمحبة.
ففي مجتمع كان فيه المستأثرون بالثروة قلّة، وبقية الناس تعاني العوز والمرض، لا بد من تذكير الأغنياء بأن رسول الله أعظم إنسان خلقه الله، كان متواضعا رحيما ناكرا لذاته، بعيدا عن التفكير في الثراء وجمع المال، ولو أراد ذلك لحصل على ثروات الأرض وكنوزها، وقد ردّد شعراء المدح النبوي هذه الصفة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتحدثوا عن زهده في الدنيا وبهرجها، ليتعظ المتهالكون على المال، والذين يظلمون من أجل الحصول عليه وكنزه. ودأب المصلحون في ذلك العصر على تنبيه الناس على تلك المسألة، فقال الماوردي في كتابه (أدب الدنيا والدين) عن المال: «ولو كانت فيه فضيلة لخصّ الله به من اصطفاه لرسالته، واجتباه لنبوته، وقد كان أنبياء الله تعالى مع ما خصّهم من كرامته، وفضلهم على سائر خلقه فقراء.. حتى صاروا في الفقر مثلا، قال البحتري:
فقر كفقر الأنبياء وغربة ... وصبابة ليس البلاء بواحد «١»
لقد كانت سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممّا يضرب به المثل في مناحي الحياة كلها، ومما تقارن به أعمال الناس، وكان الشعراء قبل العصر المملوكي، يتمثلون بمواقف النبي الكريم
(١) الماوردي: أدب الدنيا والدين ص ٢١٤ والبيت في ديوان البحتري ١/ ٥٠٧.