[معنى الفطرة]
فسر بعض العلماء الفطرة: بأن المقصود أن المولود يولد كالصفحة البيضاء ليس مكتوباً فيها أي شيء من الأشياء، فهو ليس مفطوراً على التوحيد، كما أنه ليس مفطوراً على ضده، فهو يخرج من بطن أمه ليس عنده معرفة ألبتة؛ بل يخرج وليس في نفسه شيء، ثم بعد ذلك يحصل أن يتأثر بالبيئة المحيطة به، وقد تزعم هذا الرأي الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في كتابه التمهيد في شرح الأحاديث المرفوعة في الموطأ، وتحدث وأطال الحديث في هذا التفسير.
والصحيح أن هذا التفسير للآية والحديث تفسير غير صحيح، وستأتي الإشارة إلى ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى.
المعنى الثاني الذي أشار إليه بعض العلماء في تفسير هذه الآية وهذا الحديث: هو أن الإنسان يولد وفي نفسه استعداد لتقبل التوحيد واستعداد لتقبل غير التوحيد، والفرق بين هذا الرأي والرأي الذي قبله: أن الرأي الذي قبله لم يتعرض لموضوع الاستعداد، بينما هذا الرأي فيه معنى جديد وهو القابلية والاستعداد للتوحيد وضده أيضاً، ولكن هذا الرأي ليس فيه أن الفطرة تقتضي أن يكون الإنسان مولوداً على توحيد الله سبحانه وتعالى.
وهناك آراء أخرى مختلفة حول موضوع الفطرة.
ولكن المعنى الصحيح والمفهوم الصحيح من هذه الآية والحديث: أن الإنسان عندما يخرج من بطن أمه يكون مفطوراً على توحيد الله، وليس معنى كونه مفطوراً على توحيد الله أن عنده معلومات تفصيلية عن أحكام دين الله عز وجل، وإنما معناه: أن الإنسان عندما يولد تكون عنده معرفة لله عز وجل، معرفة جملية مخلوقة فيه لا يمكن له أن يعبر عنها.
وذلك أن المولود الصغير أول ما يخرج من بطن أمه يكون لديه علوم ضرورية يقوم بها بدون أي معلومات، فالطفل الصغير ليس عنده أي معلومات، فمثلاً: أول ما تعطيه أمه الثدي يلتقمه مباشرة ويمصه، ما الذي عرف هذا الطفل أن في هذا الثدي غذاء له؟ هذه معرفة خلقها الله عز وجل فيه، وهو يقوم بها بدون أي معلومات تترتب على العقل أو تترتب على الدماغ، فهي أشياء موجودة في نفسه.
وبناءً على هذا نقول: إن الإنسان أول ما يولد يكون مفطوراً على التوحيد، بمعنى: أنه أول ما يولد عنده شعور بالله عز وجل، وعنده شعور بتوحيد الله سبحانه وتعالى، وعنده شعور بالتأله لله عز وجل، لكن هذا الشعور شعور مجمل وشعور عام غير تفصيلي، ثم بعد ذلك عندما يعقل ويكبر فإن الرسل تفصل له هذه الأمور المجملة.
والدليل على هذا الفهم للفطرة: أن الآية واضح فيها المدح لهذه الفطرة، فالله عز وجل يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ} [الروم:٣٠]، فهذه الإضافة إلى الله سبحانه وتعالى بقوله: (فطرة الله) تدل على أن هذه الفطرة ممدوحة، ولو كانت هذه الفطرة لا تقتضي معرفة الله عز وجل وتوحيده لما كانت ممدوحة، بمعنى: لو كانت بياضاً ليس فيها شيء كالورقة البيضاء، فإن الورقة البيضاء في حد ذاتها ليست ممدوحة؛ لأنه ليس فيها شيء ممدوح مثل معرفة الله، وليس فيها شيء مذموم مثل ضد ذلك، فالفطرة هنا فطرة ممدوحة، والإضافة إلى الله عز وجل تدل على أنها ممدوحة، فإن الإضافة إلى الله عز وجل نوعان: إضافة صفات، وإضافة أعيان.
فإضافة الصفات: المقصود بها إضافة الأوصاف إلى الله عز وجل، مثل: وجه الله، وعين الله، ويد الله، فهذه الأمور إضافتها إلى الله إضافة صفات، وأما إضافة الأعيان -والمقصود بالأعيان هي الأمور التي تقوم بذاتها، والصفات هي الأمور التي لا تقوم بذاتها- فإضافة الأعيان إلى الله سبحانه وتعالى لها نوعان: إضافة مدح وتشريف، وإضافة خلق، فإضافة الخلق مثل قول الله عز وجل: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:١٣]، أو أي مخلوق من المخلوقات، فالكافر مثلاً تقول: إنه مخلوق لله، فتضيف خلقه إلى الله، مع أنه كافر، ولكن تضيفه إلى الله سبحانه وتعالى على سبيل الخلق.
وهناك إضافة مدح وتشريف، مثل إضافة البيت، تقول: بيت الله، ويقول الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:٦٣]، فهذه إضافة مدح، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:١٩]، فهذه الإضافة إلى الله سبحانه وتعالى إضافة مدح وتشريف، فإضافة الفطرة من هذا النوع.
قال الله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠]، ومعنى قوله: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) أي: أن الله عز وجل عندما خلق الإنسان فإن الناس كلهم خلقهم على هذه الهيئة، وهي أنهم يولدون مفطورين على توحيد الله سبحانه وتعالى، {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:٣٠].
وأيضاً: يدل الحديث على أن هذه الفطرة تقتضي وتتضمن معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده، يقول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي