المسألة الجديدة التي سنبحثها هي: مسألة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فالربوبية مشتقة من (الرب)، والرب معناه في لغة العرب: السيد المطاع الذي بلغ كمال السؤدد، ومن لوازم ذلك أن يكون مالكاً، فهو سبحانه وتعالى السيد المطاع المالك الآمر سبحانه وتعالى، فهذا معنى الربوبية، وقد دلت نصوص القرآن بكثرة على توحيد الربوبية، كقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:٢]، وفي الخلق:{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا}[الملك:٣] وفي باب الأمر: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}[الأعراف:٥٤]، والله عز وجل له التدبير وحده لا شريك له، فهو المحيي والمميت، وهو الضار والنافع سبحانه وتعالى، وحده لا شريك له، وهذا النوع من التوحيد لا ينكره أحد من سائر الأمم حتى من تظاهر بإنكار الخالق فإنه في الباطن مقر به، ولهذا يقول الله عز وجل عن فرعون:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}[النمل:١٤]، وقال الله عز وجل عنه في خطاب موسى له:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}[الإسراء:١٠٢]، وأيضاً قال:{فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه:٤٤]، قال العلماء: يتذكر ما في فطرته من معرفة الله عز وجل، ولهذا كان سائر الأمم يقرون بالخالق سبحانه وتعالى، ولا توجد طائفة من الطوائف تنكر وجود الله عز وجل إنكاراً تاماً حتى المجوس الذين قالوا بالأصلين النور والظلمة لا يقولون: إن النور والظلمة متساويان في الصفات والأفعال، بل يرون أن النور أعظم وأنه أفضل وأحسن، ويرون أنه هو القديم، والظلمة هي الحادثة، وأن الظلمة شريرة ونحو ذلك، فلا توجد طائفة من البشر تقول: إن لله شريكاً موافقاً له في الصفات والأفعال، حتى النصارى الذين قالوا: بالأقانيم فإنهم قالوا أن إلههم هو الأب والابن وروح القدس، وما كانوا يعتقدون أن الأب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة منفصلة بل كل إله له ما للإله الآخر من الصفات والأفعال، بل كانوا يفسرون الأقانيم بأنها الصفات، ويرون أنه إله واحد موصوف بأنه أب وبأنه ابن وبأنه روح للقدس، لكن عند التفصيل تجد أنهم يتناقضون، فهم يعتقدون أن الأب إله عظيم، وأن الابن هو عيسى، وأن روح القدس هو جبريل، فعلى كل حال لا توجد طائفة من البشر تنكر توحيد الربوبية إنكاراً تاماً، لكن يوجد من يشرك في الربوبية.
فالعرب كانوا ينكرون البعث، والبعث هو خلق آخر، يقول الله عز وجل:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}[التغابن:٧]، وكانوا يقولون: ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}[الجاثية:٢٤]، ويقول أحدهم: أموت ثم قبر ثم حشر حديث خرافة يا أم عمرو فكانوا ينكرون الحشر والبعث، مع أن البعث والحشر هو في حقيقته خلق آخر، وكانوا يشركون بالله عز وجل، فيجعلون لله البنات سبحانه، وقالوا: الملائكة بنات الله، كما قالت اليهود: عزير ابن الله، وكما قال النصارى المسيح ابن الله، وكل هذا من الشرك في الربوبية، ولا يصح أن نقول: إنه لا توجد طائفة تشرك في الربوبية، لكن نقول: لا توجد طائفة تنكر توحيد الربوبية بالكلية، وتقول: إن الله ليس برب أو تعتقد أن هناك رباً آخر مع الله عز وجل مساوي له في الصفات والأفعال، وهذا أمر مقرر عند أهل السنة بالإجماع ومتفقون عليه.