فهذه المراتب الأربع هي مراتب الإيمان بالقدر، من أنكر المرتبة الأولى وهي مرتبة العلم فإنه يكفر، فمن أنكر أي مرتبة من بقية المراتب سواء مرتبة الكتابة أو المشيئة أو الخلق فإن إنكاره على نوعين: النوع الأول: أن يكون إنكار جحود وتكذيب، وحينئذ فيكون بالله تعالى.
والأمر الثاني: أن يكون إنكاره إنكار تأويل، وهذا كعامة المعتزلة المتأخرين، والقدرة المتأخرين، فهؤلاء لا يكفرون، وإن كانت المقالة في حد ذاتها كفراً؛ لأنها تتضمن التكذيب لخبر الله سبحانه وتعالى.
وكان أوائل القدرية ينكرون العلم، ولكن انقرضت هذه الفرقة التي تنكر العلم ولم يبق إلا القدرية المعتزلة والشيعة والخوارج الآن، فإنهم لا ينكرون العلم، لكنهم ينكرون خلق الله لأفعال العباد، وينكرون كتابة الله سبحانه وتعالى لأحوال العباد.
فيجب على الإنسان إذاً أن يعلم أن الله عز وجل عالم بأعمال العباد قبل أن يفعلوها، وأنه كتب سبحانه وتعالى هذه الأعمال في اللوح المحفوظ، وأنه سبحانه وتعالى ما يحصل في هذا الكون شيء إلا بمشيئته وإرادته العامة، وأن هذه الأشياء التي يعملها العباد هي من مخلوقات الله عز وجل، وأن العبد وقدرة العبد هو سبب من الأسباب الذي ينقل الشيء من العدم إلى الوجود، فإن انتقال الشيء من العدم إلى الوجود؛ انتقال الفعل قبل أن يكون فعلاً إلى مرحلة بعد الفعل أو مرحلة الفعل في حد ذاتها؛ هذا الانتقال يكون بقدرة العبد المخلوق لله سبحانه وتعالى، ويكون هذا على سبيل السببية وأن العبد سبب لهذا الانتقال، والسبب كما هو معلوم من عقيدة أهل السنة والجماعة لا يفعل بذاته، وإنما يفعل بقدرة الله عز وجل ومشيئته، فإذا شاء تم السبب وإذا لم يتم، فالإحراق مثلاً سبب، لكن الإحراق هذا تخلف عندما ألقي إبراهيم في النار؛ لأن الله عز وجل لم يرد لهذه النار أن تحرق إبراهيم، بل قال:{كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء:٦٩].
والسكين سبب للقطع، لكنها لم تقطع عندما أراد إبراهيم أن يذبح ابنه إسماعيل؛ لأن الله عز وجل لم يرد ذلك، وهكذا كل سبب فإنه يوجد إذا تحقق المسبب في الواقع إذا أراد الله عز وجل وينتفي إذا لم يرد الله سبحانه وتعالى ذلك.
فالسبب لابد لوجوده من وجود شروط وانتفاء موانع، ومع ذلك فإن عنده قدرة خاصة خلقها الله سبحانه وتعالى، وهذا مما يشعر به الإنسان، والإنسان قد يشعر أن عنده قدرة للفعل بدون أي تردد وأنه قادر على أن يفعل أي فعل دون تردد، سواء من أفعال الخير أو من أفعال الشر، وهذا يدل على أن عنده قدرة في نفسه وأن عنده إمكانية، لكن يجب أن يؤمن أن هذه القدرة خلقها الله، وأنه لا يمكن له أن يفعل الشيء إلا بعد إرادة الله سبحانه وتعالى، وأنه إذا فعله فإن الله قد كتب هذا الفعل وقد علمه قبل ذلك، لكنه لم يجبر العبد عليه، وهذا ما يشعر به الإنسان من نفسه، بل قد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(كل شيء بقدر الله حتى العجز والكيس) يعني: كون الإنسان عاجزاً عن العمل هذا بقدر الله، وكون الإنسان كيساً فطناً قادراً على الفعل والعمل هذا أيضاً بقدر الله سبحانه وتعالى.