ثم ساروا إلى أن وصلوا إلى قصر عظيم الشأن محكم البنيان ما حواه سلطان، قصر قام من التراب وتعلق بأكتاف السحاب، بابه من خشب الساج، مرصع بالذهب الوهاج، يدخل منه إلى إيوان بفسقية وشاذروان، وحصر عبدانية ومخدات اسكندرانية، وستر مسبول وفرش يذهل العقول، وعلى عتبة الباب مكتوب هذان البيتان:
قصر عليه تحية وسلام ... نشرت عليه جمالها الأيام
فيه العجائب والغرائب نوعت ... فتحيرت في نعتها الأقلام
قال: فدخل الخليفة الثاني إلى القصر، والجماعة في خدمته، إلى أن جلس على كرسي من الذهب مرصع بالدر والجوهر، وعلى الكرسي بشخانة من الحرير الأخضر لا يرى مثلها إلا عند كسرى وقيصر، مزركشة بالذهب الأحمر، معلقة في بكرة من الصندل، رباطاتها من الحرير الأصفر، هذا وقد جلس الندماء في مراتبهم، وصاحب سيف النقمة واقف بين يديه، فمدوا السماط وأكلوا ورفعوا الخوان، ولأيديهم غسلوا، وأحضرت آلة المدام، ووضعت الطاسات والأواني وصففت الأباريق والكاسات والقناني، ودار الدور إلى أن وصل إلى الخليفة هارون الرشيد، فامتنع من الشراب فقال الخليفة الثاني لجعفر: ما بال صاحبك لا يشرب.
فقال: يا مولاي له مدة ما شرب.
فقال الشاب: عندي مشروب غير هذا يصلح لصاحبك. علي بشراب التفاح! ففي الحال أ؛ ضر فقدم بين يدي هارون الرشيد وقال: كلما وصل إليك الدور فاشرب من هذا، ولا يزالون يشربون في انشراح وتعاطي أقداح إلى أن تمكن الشراب من رؤوسهم واستولى على عقولهم ونفوسهم فقال الرشيد لوزيره: والله يا وزير ما عندنا آنية مثل هذه الآنية، فيا ليت شعري من يكون هذا الشاب.
فبينما هما يتحدثنا بلطافة إذ لاحت من الشاب التفاتة فوجد الوزير يسار الخليفة، فقال: المسارة عربدة.
فقال الوزير: ما ثم عربدة، إلا أن رفيقي هذا يقول: سافرت غالب البلاد، ونادمت الملوك وعاشرت الأجناد ما رأيت أحسن من هذا النظام ولا مثل آنية هذا المدام، إلا أن أهل بغداد يقولون الشراب بلا سماع من جملة المجون.