للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: فصرخ الشاب وشق ما عليه من الثياب فأخوا عليه البشخانة وأتوا ببذلة غيرها، وعاد إلى حالته مع ندمائه ودارت الأقداح وطاب الانشراح، فلما وصل القدح إليه ضرب القضيب على المدورة، ففتح باب وخرج منه خادم حامل كرسياً وخلفه جارية فجلست على الكرسي، وأخذت العود وغنت تقول:

هل ينقضي حال التهاجر والقلى ... ويعود لي ما قد تقضى أولا

أيام كنا والديار تلمنا ... في طيب عيش والحواسد غفلا

غدر الزمان بنا وفرق شملنا ... من بعد هاتيك المنازل والحلا

أتروم مني يا عذولي سلوةً ... وأرى فؤادي لا يطيع العذلا

فدع الملام وخلني بصبابتي ... فالقلب من أنس المحبة ما خلا

يا سادة نقضوا العهود وبدلوا ... لا تحسبوا قلبي لبعدكم سلا

قال: فلما فرغت الجارية صرخ الشاب صرخةً عظيمة، وشق ما عليه من الثياب، ووقع إلى الأرض مغشياً عليه، وسقط منه القوى والحبل، فأرادوا أن يرخوا عليه البشخانة على العادة، فتعوقت حبالها بالإرادة، فلاحت من هارون الرشيد التفاتة فنظر على أجناب الشاب أثر مقارع، فقال الرشيد بعد النظر والتأكد لجعفر: إنه شاب مليح إلا أنه لص قبيح، وما عند أحد منه خبر. هل رأيت ما على جنبيه من الأثر.

وقد أسبلت البشخانة عليه على العادة وأتي ببذلة غيرها فلبسها وقد أفاق من غشيته فاستوى جالساً على العادة مع الندماء، فحانت منه التفاتة فوجد جعفراً والخليفة يتحدثان، فقال لهما: ما الخبر يا فتيان؟ فقال جعفر: يا مولاي خير، لا شك ولا خفاء، إن رفيقي هذا من التجار الكبار، وسافر إلى جميع الأمصار، وصحب الملوك والأخبار، قال: إن الذي حصل من مولانا الخليفة في هذه الليلة إسراف عظيم لم أر أحداً فعل هذا الفعل في هذه الأقاليم لأنه شق كل بذلة بخمسمائة دينار، وهذا شيء زائد في العيار.

فقال الشاب: يا هذا! المال مالي والقماش قماشي، وهذا من بعض إنعامي على الخدم والحواشي، فإن كل بذلة شققتها هي لواحد من الندماء الحضار، وقد رسمت لهم أن العوض على كل بذلة خمسمائة دينا.

فأنشد عند ذلك الوزير جعفر وقال:

بنت المكارم وسط كفك منزلاً ... فجميع مالك للأنام مباح

وإذا المكارم أغلقت أبوابها ... يوماً، فأنت لقفلها مفتاح

<<  <   >  >>