ثم إنها ابتدأت تنشد وتقول:
وصل الكتاب فلا عدمت أناملاً ... عنيت به حتى تضوع طيبا
ففضضته وقرأته، فوجدته ... لخفي أوجاع القلوب طبيبا
فكأن موسى قد أعيد لأمة ... أو ثوب يوسف قد أتى يعقوبا
المملوكة تقبل الأرض وتنهي أن شوقها شديد، وغرامها ما عليه من مزيد، ومأمولها من الحميد المجيد أن يجمع شملها بك قبل أن تريد، وأقول:
أشتاقكم حتى إذا نهض الهوى ... لمقامكم قعدت بي الأيام
والله إني لو وصفت صبابتي ... فني المداد وقلت الأقلام
ثم إنها نثرت فتات المسك والطيب في رسالتها وطوتها وحققتها وناولتني إياها فأخذتها وقمت مسرعاً وأنا فرحان إلى أن أتيت دار الأمير عمرو ودخلت الدهليز فسمعته يقول:
ترى حرمت كتب المحبة بيننا! ... أسحر أم القرطاس أصبح غاليا
فاستأذنت عليه ودخلت فلما رآني قال لي: أقمح أم شعير؟ فقلت له: قمح مغر بل ليس فيله كدر. ثم ناولته الكتاب ففضه وقرأه فلما فهم معناه تهلل وجهه بالفرح فبكى وقال:
هجم السرور علي حتى إنه ... من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين! قد صار البكا لك عادةُ ... تبكين في فرح وفي أحزانِ
فلما فرغ من البكاء قال لي: يا شيخ ما أظن الحديد يلين ولا الصخر يذوبُ نعل أن تكون صنت هذا الكتاب من عندك؟ فقلت: يا مولاي والله ما صنعته ولا كتبته بل هو خطها بيدها.
فبينما هو يخاطبني، إذ هي عبرت علينا وهي تخطر لفي قوامها وهي تنشد وتقول:
نزوركم لا نجازيكم بجفوتكم ... إن الكريم إذا لم ستزر زارا
فلما رآها الأمير عمرو نهض قائماً على قدميه ورمى بروحه عليها واعتنقها واعتنقته ساعة زمانية، فقمت لأخلي لهما المكان، فقالت الست بدور: إلى أين تروح يا شيخ؟ قلت أخلي لكما المكان لأنكما ما اجتمعتما من مدة سنة كاملة.
فقالت: لا تفارقني من الساعة إلى الصباح.