للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقلت: يا أمير المؤمنين، أعوذ بالله أن يكون مثلي يفشي سرك.

قال: وكان هذا القول أول ما ظهر من أمر البرامكة، ثم ودعته وانصرفت متفكراً في إيقاع الحيلة عليهم. فلما كان من الغد بكرت إليه، وجلست بين يديه وكان في محل يشرف على الدجلة من شرقي مدينة باب السلام، وبإزائه منزل جعفر من الجانب الغربي، وكانت المواكب من جميع الأَصناف: من قائد وأمير وعامل يردون في كل يوم إلى قصر جعفر، فالتفت إلي وقال: يا إسماعيل، هذا ما كنا فيه بالأمس. انظر كم على باب جعفر من الجيوش والغلمان والمواكب، وأنا ما على باب داري أحد؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، ناشدتك الله أن لا تعلق نفسك بشيء من هذا. وإن جعفراً إنما هو عبدك وخادمك ووزيرك وصاحب جيوشك، إذا لم يكن الجيش على بابه فعلى باب من يكون؟ إنما بابه باب من أبوابك.

فقال: يا إسماعيل، أنظر إلى دوابهم ألست ترى أعجازهم إلى قصري وتروث بإزائنا، ونحن ننظر إليها، والله هذا هو الاستخفاف بعينه، والله لا أصبر على ذلك.

ثم غضب غضباً شديداً وامتلأ غيظاً، فأمسكت عن الكلام وقلت: والله هذا قضاء من الله سابق وحكم لا محالة واقع، ثم استأذنته في الانصراف ورجعت إلى منزلي، فلقيني جعفر في الطريق يريد الرشيد، فتواريت عنه حتى مضى، فدخل إليه وسلم عليه فأجلسه عن يمينه وأكرمه غاية الإكرام وبش في وجهه وحادثه ساعة ووهب له خادماً من خاصة خدمه وأنبلهم وأوضحهم وجهاً وأكملهم ظرفاً، كاتباً حاسباً لبيباً، فسر جعفر سروراً كاملاً، ووقع في قلبه أجل موقع، وكان دسيساً عليه وبلية لديه يرفع أخباره إلى الرشيد ويحصي عليه أنفاسه ساعة بساعة ووقتاً بوقت، فخلا به جعفر يومه ذلك وليلته واحتجب من أجله عن الناس، فلما كان بعد ثلاثة أيام سرت إلى جعفر فسلمت عليه، فلما خلا مجلسه ولم يبق عنده غيري وذلك الخادم واقفٌ، وعلمت أن الخادم يحصي علينا أخبارنا فقلت: أيها الوزير، نصيحة أفتأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم.

وكان الرشيد ولاه كورة خراسان كلها وما يضاف إليها وينسب لها قبل هذا الكلام بأيام، وخلع عليه وعقد له لواء وعسكراً بالنهروان، وضرب الناس مضاربهم بها، وهم متأهبون للسفر، فقلت: يا سيدي! أنت عازم على الخروج إلى بلدة كثيرة الخير واسعة الأقطار عظيمة المملكة، فلو صيرت بعض ضياعك لولد أمير المؤمنين لكان أحظى لمنزلتك عنده؟ فلما قلت ذلك نظر إلي مغضباً وقال: والله يا إسماعيل، ما أكل الخبز

<<  <   >  >>