الحديث ما قد تتوهمه النفوس من أنَّ الجزاء من الله عز وجل على سبيل المعاوضة والمقابلة، كالمعاوضات التي تكون بين الناس في الدنيا؛ فإنَّ الأجير يعمل لمن استأجره، فيُعطيه أجره بقدر عمله، على طريق المعاوضة، إنْ زاد زاد أجرته، وإنْ نقص نقص أجرته، وله عليه أجرة يستحقها كما يستحق البائع الثمن، فنفى - صلى الله عليه وسلم - أنْ يكون جزاءُ الله وثوابه على سبيل المعاوضة والمقابلة والمعادلة، والباء هنا كالباء الداخلة في المعاوضات، كما يقال: استأجرت هذا بكذا، وأخذت أجرتي بعملي، وكثير من الناس قد يتوهم ما يشبه هذا، وهذا غلط من وجوه:
أحدها: أنَّ الله تعالى ليس محتاجاً إلى عمل العباد كما يحتاج المخلوق إلى عمل من يستأجره.
الثاني: أنَّ الله هو الذي مَنَّ على العامل بأنْ خَلَقَهُ أولاً، وأحياه ورزقه، ثم بأنْ أرسل إليه الرسل، وأنزل إليه الكتب، ثم بأنْ يسر له العمل، وحبَّبَ إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، والمخلوق إذا عمل لغيره لم يكن المستعمل هو الخالق لعمل أجيره، فكيف يُتصور أنْ يكون للعبد على الله عِوض، وهو خلقه وأحدثه وأنعم على العبد به، وهل تكون إحدى نعمتيه عوضاً عن نعمته الأخرى وهو ينعم بكلتيهما.
الثالث: أنَّ عمل العبد لو بلغ ما بلغ ليس هو مما يكون ثواب الله مقابلاً له ومعادلاً حتى يكون عوضاً؛ بل أقل أجزاء الثواب يستوجب أضعاف ذلك العمل.
الرابع: أنَّ العبد قد يُنَعَّم ويُمَتَّع في الدنيا بما أنعم الله به عليه مما يستحق بإزائه أضعاف ذلك العمل إذا طلبت المعادلة والمقابلة.
الخامس: أنَّ العباد لا بُدَّ لهم من سيئات، ولا بُدَّ في حياتهم من تقصير، فلولا عفو الله لهم عن السيئات وتقبله أحسن ما عملوا لما استحقوا ثواباً؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ". قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨)) [الانشقاق: ٧ - ٨]؟ قَالَ: "ذَاكَ الْعَرْضُ يُعْرَضُونَ، وَمَنْ نُوقِشَ