للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في القرآن ليس هو المنفي في السنة، والتناقض إنما يكون إذا كان المُثبت هو المنفي، وذلك أنَّ الله تعالى قال: (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقال: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤)) [الحاقة: ٢٤] وقال: (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: ١٩] وقال: (وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)) [الواقعة: ٢٢ - ٢٤]، فَبَيَّن بهذه النصوص أنَّ العمل سبب للثواب، والباء للسبب؛ كما في مثل قوله تعالى: (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) [الأعراف: ٥٧] وقوله: (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) [البقرة: ١٦٤] ونحو ذلك مما يُبَيّن به الأسباب، ولا ريب أنَّ العمل الصالح سبب لدخول الجنة، والله قدَّر لعبده المؤمن وجوب الجنة بما يُيسره له من العمل الصالح، كما قدَّر دخول النار لمن يدخلها بعمله السيء .... ، وإذا عُرِفَ أنَّ الباء هنا للسبب فمعلوم أنَّ السبب لا يستقل بالحكم، فمُجرد نزول المطر ليس موجباً للنبات، بل لا بُدَّ من أنْ يخلق اللهُ أموراً أخرى، ويدفع عنه الآفات المانعة، فيُرَبّيه بالتراب والشمس والريح، ويدفع عنه ما يُفسده، فالنبات محتاج مع هذا السبب إلى فضلٍ من الله أكبر منه.

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ"؛ فإنَّه ذكره في سياق أمره لهم بالاقتصاد قال: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا؛ فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ"، وقال: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ (١) وَالرَّوْحَةِ (٢) وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ (٣) " (٤)، فنفى بهذا


(١) الْغَدْوَةُ: هي الوقت الكائن من أول النهار إلى الزوال. انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض (٢/ ١٢٩).
(٢) الرَّوْحَةُ: هي الوقت الكائن من الزوال فما بعده. انظر: المصدر السابق.
(٣) الدُّلْجَةُ: هي سير الليل، يقال: أدْلَجَ - بالتخفيف - إذا سار من أول الليل. وادَّلَجَ - بتشديد الدال- إذا سار من آخره، والاسم منهما الدلجة والدلدة، بالضم والفتح. ومنهم من يجعل الإدلاج لليل كله. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (٢/ ١٢٩).
(٤) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (٣٩).

<<  <   >  >>