يقلب تلك النار برداً وسلاماً، كما قلب قصد الخليل التقرب إلى ربه وإيثار محبته ومرضاته وبذل نفسه وإيثاره إياه على نفسه تلك النار بأمر الله برداً وسلاماً، فليس أمره سبحانه إياهم بدخول النار عقوبة ولا تكليفاً بالممتنع، وإنما هو امتحان واختبار لهم هل يوطنون أنفسهم على طاعته أم ينطوون على معصيته ومخالفته، وقد علم سبحانه ما يقع منهم، ولكنه لا يُجازيهم على مجرد علمه فيهم ما لم يحصل معلومه الذي يترتب عليهم به الحجة، فلا أحسن من هذا يفعله بهم، وهو محض العدل والحكمة.
الوجه الثاني عشر: أَنَّ هذا مطابق لتكليفه عباده في الدنيا؛ فإنه سبحانه لم يستفد بتكليفهم منفعة تعود إليه، ولا هو محتاج إليهم، وإنما امتحنهم وابتلاهم ليتبين من يؤثر رضاه ومحبته ويشكره، ممن يكفر به ويؤثر سخطه، قد علم منهم من يفعل هذا وهذا، ولكنه بالابتلاء ظهر معلومه الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، وتقوم عليهم به الحجة.
وكثير من الأوامر التي أمرهم بها في الدنيا نظير الأمر بدخول النار؛ فإنَّ الأمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ورماحهم، وتعريضهم لأسرهم لهم، وتعذيبهم واسترقاقهم، لعله أعظم من الأمر بدخول النار، وقد كَلَّفَ الله بني إسرائيل قتل أنفسهم وأولادهم وأرواحهم وإخوانهم لما عبدوا العجل، لما لهم في ذلك من المصلحة، وهذا قريب من التكليف بدخول النار، وكَلَّفَ على لسان رسوله المؤمنين إذا رأوا نار الدجال أن يقعوا فيها، لما لهم في ذلك من المصلحة، وليست في الحقيقة ناراً، وإنْ كانت في رأي العين ناراً، وكذلك النار التي أمروا بدخولها في الآخرة إنما هي برد وسلام على من دخلها، فلو لم يأت بذلك أثر لكان هذا هو مقتضى حكمته وعدله، وموجب أسمائه وصفاته.
الوجه الثالث عشر: قول ابن عبد البر: "وليس ذلك في وسع المخلوقين" جوابه من وجهين:
أحدهما: أنه في وسعهم، وإنْ كان يشق عليهم، وهؤلاء عباد النار يتهافتون فيها ويلقون أنفسهم فيها طاعة للشيطان، ولم يقولوا ليس في وسعنا، مع تألمهم بها غاية الألم، فعباد الرحمن إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته