للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عنه وليه" - بتلك الوجوه التي ذكرتموها، فنحن ننتصر لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونبين موافقته للصحيح من تلك الوجوه ....

فأما قول الإمام مالك: "لا يصوم أحد عن أحد، وهو أمر مُجمعٌ عليه عندنا، لا خلاف فيه" (١)، فمالك - رحمه الله - لم يحك إجماع الأمة من شرق الأرض وغربها، وإنما حكى قول أهل المدينة، فيما بلغه، ولم يبلغه خلافٌ بينهم، وعدم اطلاعه على الخلاف في ذلك لا يكون مسقطاً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل لو أجمع عليه أهل المدينة كلهم لكان الأخذ بحديث المعصوم أولى من الأخذ بقول أهل المدينة، الذين لم تُضمن لنا العصمة في قولهم دون الأمة، ولم يجعل اللهُ ورسولُه أقوالهم حجة يجب الرد عند التنازع إليها، بل قال الله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: ٥٩].

وأما قولهم: إنَّ ابن عباس - رضي الله عنهما - هو راوي حديث الصوم عن الميت، وقد قال: "لا يصوم أحد عن أحد" (٢)، فغاية هذا أنْ يكون الصحابي قد أفتى بخلاف ما رواه، وهذا لا يقدح في روايته، فإن روايته معصومة، وفتواه غير معصومة، ويجوز أنْ يكون نسي الحديث، أو تأوَّله، أو اعتقد له معارضاً راجحاً في ظنِّه، أو لغير ذلك من الأسباب، على أَنَّ فتوى ابن عباس غير مُعارضة للحديث؛ فإنه أفتى في رمضان أَنَّه لا يصوم أحد عن أحد، وأفتى في النذر أَنَّه يصام عنه (٣)، وليس هذا بمخالف لروايته، بل حَمَلَ الحديث على النذر. ثم إنَّ حديث: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، هو ثابت من رواية عائشة رضي الله عنها، فهب أَنَّ ابن عباس خالفه، فكان ماذا؟ فخلاف ابن عباس لا يقدح في رواية أم المؤمنين، بل رَدُّ قول ابن عباس برواية عائشة، أولى من رد روايتها بقوله. وأيضاً فإنَّ ابن عباس قد اختُلِفَ عنه في ذلك، وعنه روايتان، فليس إسقاط الحديث للرواية المخالفة له عنه أولى من إسقاطها بالرواية الأخرى بالحديث.


(١) انظر: المدونة، للإمام مالك (١/ ٢٧٩).
(٢) تقدم تخريجه قريباً.
(٣) تقدم تخريجه قريباً.

<<  <   >  >>