للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العذاب، وأنَّ إيمانه لا ينفعه دَسَّ الطين في فيه لتحقق معاينته للموت، فلا تكون تلك الكلمة نافعة له، وأنه وإنْ كان قالها في وقت لا ينفعه فدسَّ الطين في فيه تحقيقاً لهذا المنع، والفائدة فيه تعجيل ما قد قُضِيَ عليه، وسد الباب عنه سداً محكماً، بحيث لا يبقى للرحمة فيه منفذ، ولا يبقى من عمره زمن يتسع للإيمان، فإنَّ موسى عليه السلام لما دعا ربه بأنَّ فرعون لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، والإيمان عند رؤية العذاب غير نافع، أجاب الله دعاءه.

فلما قال فرعون تلك الكلمة عند معاينة الغرق استعجل جبريل فدس الطين في فيه لييأس من الحياة ولا تنفعه تلك الكلمة، وتحقق إجابة الدعوة التي وعد الله موسى بقوله: (قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا) [يونس: ٨٩]، فيكون سعي جبريل في تكميل ما سبق في حكم الله أنه يفعله، ويكون سعي جبريل في مرضاة الله سبحانه وتعالى، منفذاً لما أمره به وقدره وقضاه على فرعون.

وأما قوله: «لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر»، فجوابه: ما تقدم من أَنَّ الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وجبريل إنما يتصرف بأمر الله، ولا يفعل إلا ما أمره الله به، وإذا كان جبريل قد فعل ما أمره الله به ونفذه فإنما رضي بالأمر لا بالمأمور به، فأيُّ كفر يكون هنا، وأيضاً: فإنَّ الرضا بالكفر إنما يكون كفراً في حقنا؛ لأنا مأمورون بإزالته بحسب الإمكان، فإذا أقررنا الكافر على كفره ورضينا به كان كفراً في حقنا لمخالفتنا ما أمِرْنا به.

وأما من ليس مأموراً كأمرنا، ولا مكلفاً كتكليفنا، بل يفعل ما يأمره به ربه؛ فإنه إذا نفَّذَ ما أمره به لم يكن راضياً بالكفر، ولا يكون كفراً في حقه، وعلى هذا التقدير فإنَّ جبريل لما دسَّ الطين في في فرعون كان ساخطاً لكفره، غير راض به، والله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد، خيرها وشرها، وهو غير راضٍ بالكفر، فغاية أمرِ جبريل مع فرعون أنْ يكون منفذاً لقضاء الله وقدره في فرعون من الكفر، وهو ساخط له غير راضٍ به.

وقوله: «كيف يليق بجلال الله أنْ يأمر جبريل بأن يمنعه من الإيمان» فجوابه: أَنَّ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل.

وأما قوله: «وإنْ قيل: إنَّ جبريل إنما فعل ذلك من عند نفسه لا

<<  <   >  >>