للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا رأي أبي العباس القرطبي. (١)

القول الثالث: أنَّ المراد من الحديث: أنها كذبات في بادئ الأمر، لكنها عند التأمل يظهر المقصود منها، وذلك أنَّ النهي عن الكذب إنما علته خدع المخاطب، وما يتسبب على الخبر المكذوب من جريان الأعمال على اعتبار الواقع بخلافه، وأما إذا كان الخبر يُعْقَب بالصدق لم يكن ذلك من الكذب، بل يكون تعريضاً، أو مزحاً، أو نحوهما.

وهذا قول الطاهر بن عاشور، ويرى: أنه لم يكن في لغة قوم إبراهيم التشبيه البليغ، ولا المجاز، ولا التهكم، فكان ذلك عند قومه كذباً، وأن الله تعالى أذن له فعل ذلك، وأعلمه بتأويله؛ كما أذن لأيوب - عليه السلام - أنْ يأخذ ضِغْثاً (٢) من عصيٍّ؛ فيضرب به ضربة واحدة، لِيَبُرَّ قَسَمَه (٣)، إذ لم تكن الكفارة مشروعة في دين أيوب - عليه السلام. (٤)

وأما حديث الشفاعة، وقول إبراهيم - عليه السلام -: «إِنِّي كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ» (٥)؛ فقد أجاب عنه الطاهر بن عاشور بأن معناه: «أنه قال كلاماً خلافاً للواقع، بدون إذن الله بوحي، ولكنه ارتكب قولَ خلافِ الواقع؛ لضرورة الاستدلال، بحسب اجتهاده، فخشي أنْ لا يُصادِفَ اجتهاده الصواب من مراد الله، فخشي عتاب الله، فتخلص من ذلك الموقف». اهـ (٦)

ويرى الشيخ ابن عثيمين: أنَّ إبراهيم - عليه السلام - سماها كذبات، تواضعاً منه؛


(١) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (٦/ ١٨٦).
(٢) الضغث: عُثْكَالُ النخل بشماريخه، وقيل: هو قبضة من حشيشٍ مختلطٌ رطبها بيابسها، وقيل: الحزمة الكبيرة من القضبان، وقال الواحدي: الضغث ملءُ الكفِّ من الشجر، والحشيش، والشماريخ. انظر: تفسير الواحدي (٣/ ٥٥٨)، وفتح القدير، للشوكاني (٤/ ٦٢٠).
(٣) قال تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)) [ص: ٤١ - ٤٤].
(٤) التحرير والتنوير، لابن عاشور (٢٣/ ١٤٣).
(٥) سبق تخريجه في أول المسألة.
(٦) التحرير والتنوير، لابن عاشور (٢٣/ ١٤٣).

<<  <   >  >>